في رحاب آية "فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ"

إسلاميات

بوابة الفجر


بين الله -سبحانه وتعالى- في قرآنه عاقبة المستكبرين عن هدي رب العالمين، والمعرضين عن دعوة خاتم المرسلين- صلَّ الله عليه وسلم-، وذلك في كثير من الآيات، التي لم تترك صغيرة ولا كبيرة للمتكبرين، كقوله- عز وجل-: "فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون".

تفيد هذه الآية، أن الذين يتركون ما جاءهم من النور والهدى، يفتح الله- سبحانه- لهم من الرخاء والبسط في الدنيا؛ استدراجاً لهم، ثم إنه سبحانه يأخذهم على حين غرة أخذ عزيز مقتدر، جزاء بما كسبت أيديهم.

وهذه الآية على علاقة وثيقة بسابق قوله- سبحانه-: "ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون"، فالله- سبحانه- يعامل الأمم المسرفة بتسليط المكاره والشدائد عليهم، فإن لم ينتفعوا به، ينقلهم من تلك الحالة إلى ضدها، وهو فتح أبواب الخيرات عليهم، وتسهيل موجبات المسرات لديهم، ومن ثم يأخذ فجأة، وهم في نشوة الفرح والمسرة، جزاء بما كسبت أيديهم.

فهذه الآية لا بد من استحضارها لفهم المراد من الآية التي نتحدث عنها، من خلال هذه الوقفات:

1) الوقفة الأولى : 
"النسيان" في قوله- سبحانه: "فلما نسوا" بمعنى الإعراض، فليس المراد حقيقة النسيان، بل المراد ترك العمل بما جاءت به الرسل من الهدي الرشيد، والطريق السديد؛ لأن التارك للشيء إعراضاً عنه، 
كما يقال: تركه، وقد روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قوله: "فلما نسوا ما ذكروا به" يعني: تركوا ما ذكروا به.

2) الوقفة الثانية : 
معنى "ما ذكروا به"، أن الله- سبحانه- ذكرهم عقابه العظيم بما جاءهم به من المنهج والتوحيد، وهذا
التذكير إما أن يكون هو الإخبار بواسطة الرسل، الذين يذكرون الناس بأن المنعم هو الله، وأن الله أنزل المنهج ليصلح الكون به، وإما أن يكون بواسطة النعم التي تمر على الإنسان في كل لحظة من اللحظات؛ والتي تنبه الإنسان أن هناك من أعطاها.

3) الوقفة الثالثة : 
قوله- تعالى: "فتحنا عليهم أبواب كل شيء"، الفتح هنا استعارة لإزالة ما يؤلم ويغم، كقوله سبحانه: "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض"، والمراد: أن الله سبحانه فتح على هؤلاء المعرضين كل أبواب الخير والرزق التي كانت قد سُدت عليهم، حين أخذهم بالبأساء والضراء ليتضرعوا، إذ لم يتضرعوا، وتركوا أمر الله تعالى، وهذا "الفتح" منه سبحانه لهم إنما هو استدراج منه لأولئك المعرضين.

4) الوقفة الرابعة : 
قوله تعالى: "أبواب كل شيء" لفظ "كل" في الآية لفظ عامٌ مخصوص، أي: أبواب كل شيء يبتغونه، أو يحبونه، وقد عُلِمَ أن المراد بـ "كل شيء" جميع الأشياء من الخير خاصة، فثمة وصف مقدر، أي: كل شيء صالح، كقوله تعالى: "يأخذ كل سفينة غصبا"، أي: صالحة.

قال ابن عاشور: جعل "الإعراض" عما "ذكروا به" وقتًا لفتح أبواب الخير؛ فإنهم حين أعرضوا عن الاتعاظ بنُذر العذاب، رفعنا عنهم العذاب، وفتحنا عليهم أبواب الخير؛ استدراجاً لهم، كما جاء في قوله تعالى: "وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون * ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون".

لكن ينبغي التنبه هنا إلى دقة التعبير القرآني: "فتحنا عليهم" لقد فتح الله عليهم، أي: سلط عليهم، ولم يقل: فتح لهم، وقد قال الحق سبحانه في موضع آخر من القرآن الكريم مخاطباً نبيه محمداً -صل الله عليه وسلم-: "إنا فتحنا لك فتحا مبينا"، فعُرِفَ من هذا أن تعدي "الفتح" بـ "اللام" غير تعدي "الفتح" بـ "على"؛ لأن "الفتح" على أحد يعني استدراجه إلى إذلال قسري سوف يحدث له.

5) الوقفة الخامسة : 
قوله: "حتى إذا فرحوا بما أوتوا"، "الفرح" هنا هو الازدهاء والبطر بالنعمة ونسيان المنعم، كما في قوله :"إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين"؛ فإنهم إذ يكونون في فرح مما أعطاهم الله تعالى، أخذهم بالحرمان، أو أصابهم بالموت المفاجئ، أو الخراب الجائح، في وقت لم يتوقعوه، بل كانوا يتوقعون المزيد من النعم، ويحسبون أنها حق مكتسب لا يمحى. 

والمراد من ذلك، هو الإمهال لهم لعلهم يتذكرون الله ويوحدونه، فتطهر نفوسهم، فابتلاهم الله بالضر والخير؛ ليستقصي لهم سببي التذكر والخوف؛ لأن من النفوس نفوساً تقودها الشدة، ونفوساً يقودها اللين.

6) الوقفة السادسة : 
قوله سبحانه: "أخذناهم بغتة"، "الأخذ" هنا الاستئصال والسطوة والإهلاك، وسياق الآية يفيد أنه أخذ 
لا هوادة فيه، و"بغتة"معناها فجأة، والمراد أنه سبحانه أتاهم بالعذاب فجأة، وهم في غفلة لا يشعرون أن ذلك كائن، ولا هو بهم حالٌّ.

7) الوقفة السابعة : 
قوله- تعالى-: "فإذا هم مبلسون"، "الإبلاس" في اللغة يكون بمعنى اليأس من النجاة عند ورود الهلكة، ويكون بمعنى انقطاع الحجة، والحيرة بما يَرِد على النفس من البلية، وهذه المعاني متقاربة، ومتداخلة. 

روى الطبري عن عقبة بن عامر أن النبي -صل الله عليه وسلم- قال: " إذا رأيت الله تعالى ذكره يعطي العباد ما يسألون على معاصيهم إياه، فإنما ذلك استدراج منه لهم! ثم تلا: "فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ...".

وروى ابن أبي حاتم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله -صل الله عليه وسلم- كان يقول: "إن الله تبارك وتعالى إذا أراد بقوم بقاء -أو: نماء- رزقهم القصد والعفاف، وإذا أراد الله بقوم اقتطاعاً فتح لهم -أو فتح عليهم- باب خيانة".

وقد أوحى الله- تعالى-إلى موسى عليه السلام: "إذا رأيت الفقر مقبلاً إليك، فقل: مرحباً بشعار الصالحين، وإذا رأيت الغنى مقبلاً إليك، فقل: ذنب عُجِّلت عقوبته".

والمتحصل: أن الله سبحانه قد لا يحرم من أسرف على نفسه من عباده، بل يستدرجهم ويعطيهم من النعم أكثر وأكثر، فيترفون ويعيشون في ألوان من حياة العز والصحة والسعة والجاه والسيطرة والمكانة، ثم يأخذهم فجأة من حيث لا يشعرون، فلا منجي، ولا منقذ، ولا خلاص لهم.