كوميديا التقوقع "حصان أسود" لتود سولونز



منذ فيلم تخرّجه خوف، قلق وإحباط ، اتَجهت سياسة المخرج الأميركي تود سولونز السينمائية إلى كشف المستور، وقلب الطاولة على رؤوس من ظنّ أن السينما الأميركية في تسعينيات القرن العشرين، اختصرها مخرجون قليلون، عكسوا صورة شاملة عن القيم الأميركية. الفيلم الأول الذي أطلّ به، أسّس لسينما جديدة سعت لتعرية الواقع الأميركي، وأثارت ردود فعل عنيفة، مُستخدماً الطرافة الفكرية السوداء والخواطر والجنس والألفاظ النابية، والأسلوب النافر في محاكمة المجتمع، على نسق الـ ستايل الذي اتّبعه مخرجو العالم السفلي للسينما الأميركية، من جون وايترز إلى بول موريسي. إلاّ أن الاكتشاف الأكبر لسولونز جرى في فيلمه الصادم سعادة (1998)، الذي جاء تأمّلاً وحشياً في تيمات تمحورت عليها الأفلام الهوليوودية على نحو خجول، كالعنف البسيكولوجي أو الانحراف الجنسي نحو الأولاد إلخ. أعقبه فيلم سرد (Storytelling)، الذي لم يكن أقلّ جرأة من أفلامه السابقة، خصوصاً حيال العلاقة المرتبكة بين أفراد العائلة الواحدة، علماً أن العائلة من ثوابت عمل سولونز، وهي الجامع المشترك لقصص وحكايات يستمدّها من بيئته.

فيلمه الجديد حصان أسود (مسابقة الأفلام الروائية) يدور على أيب (جوردون غيلبر)، شاب في منتصف الثلاثينيات من العمر، يعاني مشكلة مزمنة. إنه مثل شخصيات كثيرة تمثّل الفشل في السينما الأميركية المستقلّة، أو ما يسمّوه هناك لوزر (خاسر). الفشل لدى أيب يتجسّد في الحياة العاطفية. فهو لا يجد فتاة يرتبط بها، حتماً بسبب مظهره الخارجي غير المنسجم مع ما تروّج له الأزمنة العصرية. بدلاً من أن ينتهج أشكال الإدانة ودروس الأخلاق البليدة التي تعجّ بها السينما، ينكبّ سولونز على الشخصية من كل جوانبها. وعندما يتعرّف أيب على ميراندا (سلمى بلير)، ينتظر مخرج سعادة كي تستوي الأمور بينهما، ليعلمنا على لسان ميراندا أنها مصابة بمرض معدٍ. من هناك وصاعداً، سوف تنهال المصائب على أيب، إلى أن تبلغ الأحداث طريق اللا عودة.

ما يطرحه سولونز في هذا الفيلم هو تيمة التقوقع، من خلال حفنة من الشخصيات المنغلقة. هناك تصادم خفي بين أيب ووالديه (الممتازان كريستوفر والكن وميا فارو) وشقيقه. لكنهم جميعهم يعانون أنانية مفرطة، هي أنانية الفردية في المجتمعات الغربية ذات الدقّة والصرامة. فأيب مختلف عن والديه، لكنه شبيه بهما بإصراره على البقاء مراهقاً مغنّجاً ، يقود سيارة مُضحكة، ويمضي وقته في متابعة آخر إصدارات الألعاب الإلكترونية.

مرّة جديدة، يبدي سولونز ميلاً إلى النقد السلبي الذي ينطوي أساساً على نية طيبة في الإصلاح، لكن من دون اللجوء إلى منطق التباكي المأسوي الذي كثيراً ما أعطى أفلاماً تليق بالقمامة. صحيح أن ما يُصوّره سولونز هو مجتمع يشهد حالة تدمير ذاتي على نحو متواصل، لكن نوعية الأسئلة الجذّابة التي يطرحها على مشاهديه تجعل المشهد أقل قسوة مما يبدو عليه. طبعاً، ليست تيمة المراهقة الدائمة بالشيء الجديد في السينما الأميركية، لكن الفرق بين حصان أسود وأفلام أخرى، هي في اللؤم الهدّام الذي يجعل العمل يترجّح بين القسوة والرقة، بين الإدانة والتسامح، بين الجنون والعقلانية. البقاء على الحدّ الفاصل بين الأشياء كان ولا يزال الهمّ الأكبر لدى كبار السينمائيين، وسولونز أحدهم.

مع ذلك، هناك إحساس يسود الفيلم في المشاهد الأولى، وهو أن سولونز أراد الانفتاح قليلاً على الجمهور، ليبني صلة معه. يبدو واضحاً مثلاً تفاديه التابوهات التي تعجّ بها أفلامه السابقة، وهذا حقّه. لكن، سرعان ما يغلب الطبع على التطبّع، فنرى أيب يصرخ في وجه والديه: نحن جميعاً في منتهى الحقارة . لقطة بعد لقطة، وحادثة بعد أخرى، يزداد وضع أيب سوءاً، إلى أن تبلغ مازوشية سولونز ذروتها، في المشهد حيث يقبل بطلنا المخبول ميراندا. طبعاً، يحرص المخرج على تعطيل اللحظة الرومنطيقية، فيضع هذه العبارة على لسان الفتاة، مباشرة بعد انتهاء القبلة: كنتُ أتوقع شيئاً أسوأ بكثير .

في زمن أصبحت فيه السينما الأميركية بحاجة ماسّة إلى تغيير جلدها ومراجعة حساباتها، يبدو سولونز الممثل الأبرز لتيّار سينمائي نهض من تحت الأنقاض التي خلّفتها العذابات المتعدّدة التي عاشها المجتمع الأميركي، بدءاً من فيتنام وصولاً إلى الثورة الإعلامية التي نجد لها علامات مشوّشة في عمله، وصولاً إلى الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. أيضاً، على الرغم من كل الانتقادات التي وُجِّهت إلى الأميركي المتميّز من جانب صحافة متحفّظة ومحافظة لا تقبل أي جديد يخالف التقاليد والأعراف، ظلّ سولونز متطرّفاً في كيفية تعرية المجتمع الذي ينتمي إليه، ولعلّ تطرفه أصدق من اعتدال الآخرين.