هشام لعسري: أذهب إلى ما هو أبعد من المحظور والسياسة



في فيلمه الروائي الطويل الأول، قدّم المخرج المغربي الشاب هشام لعسري درساً سينمائياً ممتازاً لا مثيل له في المشهد السينمائي العربي. هو صاحب رؤية وذوق وأسلوب. جمع العناصر الثلاثة التي تتيح له دخول الحداثة والتعبير باسمها. يصحّ القول إن النهاية (آفاق جديدة) يشي ببداية مسار لا يسلك الفنان الموهوب فيه أقلّ دروبه تعرّجاً، بل يُمسك بإرادته الصلبة في صناعة سينما ليذهب إلى أبعد ما يُمكن الذهاب إليه. النتيجة: مفاجآت جميلة وواعدة، ومنطوية على نموذج لا يُقلَّد. يعترف لعسري أنه أراد نصّاً عنيفاً ومقلقاً، يضع مشاهدي فيلمه في حالة سيئة، برفقة شرطيّ فاسد (إسماعيل قناطر) وشخصيات مهمّشة تعيش على قارعة العالم الذي يتلاشى ويتمزّق.

بتخيّله أحداثاً جرت في الأيام القليلة السابقة على رحيل الملك حسن الثاني، المتزامنة وبداية الألفية الثالثة، طرح لعسري تساؤلات مهمّة عن مكوّنات الواقع المغربي، منطلقاً من ثلاثة أطراف: الأب والملك والعائلة. أي ما يُجسِّد ثلاثية السلطة. داعماً رؤيته بموارد سينمائية حقيقية، من حركة كاميرا بديعة إلى تكثيف مُتقَن في التعبير، ومانحاً كل ما يَعبُر الكادر لغة للتحدّث عن نفسه بنفسه. بإيقاع ممسوك لساعة ونصف الساعة، حقّق عملاً انطوى على جرأة شكلية، وصرامة في إدارة الجوانب الفنية والجمالية، مُوجِداً لنفسه زاوية مشمسة في حديقة السينما العربية.

أخبرني عن كيفية انطلاق الفكرة.

خطرت الفكرة على بالي قبل سبعة أعوام، عندما كنت أُنجز فيلمي القصير الأول. كنت أجد أن مهنة وضع سلاسل معدنية على عجلة سيارة بهدف حجزها، غريبة بعض الشيء. هي ليست وظيفة، لكنها تتيح التواصل، لأن ممارسها يعقد صداقات عشوائية مع أصحاب المركبات الآلية، ويمضي وقته في مضايقتهم وإرباكهم. هذا ما كان يهمّني فيها. لديّ دائماً دفتر صغير أدوّن الأفكار فيه. في لحظة معيّنة، تبدأ الأمور بالتشابك والاختلاط، فتأخذني فكرة إلى أخرى. وعندما أبدأ في التأليف، تكون الحكاية قد أصبحت في رأسي.

قلتَ سابقاً إن الفيلم يتناول نهاية مرحلة وبداية أخرى في مستويات عدّة: التاريخ، لكن أيضاً مسيرتك الشخصية. هل يُمكن القول إن هذا الأمر نهاية أسلوبك الطاغي على أفلامك القصيرة، وبداية أسلوب آخر؟

لا اعتقد أن لي أسلوباً خاصّاً، لذا لا أعرف كيف سأغيّره. الوحي شيء لا نستطيع السيطرة عليه. إنجاز فيلم فِعْلٌ ينمّ عن صدق ما. لستُ في وارد عرض ذاتي. هناك شخصان أو ثلاثة قالوا لي إني أعرض عضلاتي. هذا تَجَنّ. إذا كنتُ قادراً على سرد قصّة بلقطة بدلاً من ثلاثين، فهذا لا يجعلني مخرجاً يميل إلى استعراض قدراته. نهاية الحقبة تعني نهاية مرحلة الطفولة. عندما عشت اللحظة التي عشتُها في العام 1999، كنتُ صبياً منطوياً على نفسه، لا يخرج مع الفتيات، وينحصر نشاطه بقراءة القصص المصورة. عيشي لحظة كهذه، جعلني أنتقل إلى الواقع وأتلقّى صفعة. ثم جاء باغ في العام 2000، وبعدها الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 الذي أعلن البداية الحقيقية للقرن الجديد. فوكوياما تحدّث عن نهاية التاريخ. هذا شيء مثير، لكنه لا يُبدِّل الإنسان، بل يعبر فينا من دون أن نشعر به. ينبغي مرور بعض الوقت كي ننتبه إلى أن الأمر يتعلّق بتغيير جذري.

أنتَ في عملية بحث عن ذاتك أيضاً، من خلال الأحداث التي تعرضها، أليس كذلك؟

لا أبحث عن ذاتي بقدر ما أبحث عن أشياء معينة. بالنسبة إليّ، الصورة والصوت والانفعالات تنتمي كلّها إلى عالم البحث. أتعلّم وأنا أنجز الأفلام، والبحث كان دائماً من اهتماماتي. تطلّبت كتابة هذا السيناريو أربعة أعوام، ليس لأني بطيءٌ في الكتابة، فالنسخة الأولى كتبتها في تسعة أيام، بل لأني كنتُ محتاجاً إلى الذهاب بعيداً في الكيفية التي أروي القصّة فيها.

في الفيلم، هناك مينيمالية على طريقة روبير بروسّون، المخرج الذي أعلنتَ إعجابك به وتأثّرك بأعماله. هذا واضح حتى في إدارتك الممثلين، الذين لا ينتهجون دائماً النمط الطبيعي في التمثيل.

ليست المينيمالية: ما كان يهمّني عند بروسون، بل صرامته. الاضطلاع بأدوار مماثلة كان أمراً مُقيّداً بالنسبة إلى الممثلين. أجد أن تمثيلهم جيدٌ ومُقنع. لم أضع في الفيلم ما لم يقنعني. هناك تنويعات في الفيلم تجعلك ترى تمثيلهم مزيّفاً، كما تجعل آخرين يجدونه رائعاً. الكلمة التوجيهية للممثلين كانت: على كل واحد منكم أن يجسّد وجهاً من الوجوه المتعدّدة لشخصية واحدة. لم أرغب في أن أتأخّر عند الشخصيات، لذا كانت رغبتي في جعلها كاريكاتورية. لكن، ما كان يهمّني هو البُعد الروائي لكل شخصية من الشخصيات. الصبي الذي يدنّس القبور مثلاً، أحمق قليلاً، ويفعل هذا لأن المسألة تُسلّيه فقط. ثم سرق شراشف شباب الجامع ورماها ورحل. الصبي مرتبط بالمجتمع وبأخيه. كل مرّة حاول فيها الكلام تعرّض للقمع. هذا الأخ عنيف جداً، لكن المرّة الوحيدة التي ينطق فيها، يقول حماقة. هؤلاء أشخاص لم يحظوا بانفتاح نفسي، واقتصر وجودهم على دور وظيفي. عندما يُقال لهم اضربوا ، يضربون. كنتُ أريد إظهار كل هذا القلق والانزعاج في محاكاة للمجتمع المغربي، من دون أن يتحوّل التمثيل إلى أداء، بل يبقى في باطن الممثلين. قاعدتي كانت: تشخيص واحد للكلّ، ولندع اللباس يصنع الراهب.

واضحٌ أن هناك خطين متوازين في الفيلم: حادثة وفاة الملك حسن الثاني التي تصادف مع هاجس نهاية العالم. كيف كان ممكناً التوفيق بين المتخيّل والواقعي؟

استغرقتُ وقتاً كثيراً لإخرج هذا الإحساس من داخلي. أعني ما شعرته عندما رحل الملك حسن الثاني. هذا شيء بقي ماثلاً في ذهني فترة طويلة. لا أنسى تواجدي في الشارع المغربي لحظة سقوط الملك، وشعور الخسارة الذي رأيته في عيون الناس آنذاك. كأنّ شيئاً تجمّد. الذين عبّروا عن هذا الشعور جرّاء الخوف أو الغضب، راحوا يموّنون أنفسهم بالماء والخبز، كأن حرباً قادمةٌ إلى البلاد. لطالما أحببت العثور على وسيلة لاستخدام هذا المشهد وتلك الفكرة. بدأ الناس يسألون: ماذا سيحلّ بنا؟ . هذه المرحلة لم تدم. ما هو عظيم في الإنسان قدرته على الانتقال من اليأس المطلق إلى الأمل المطلق، فجرى العبور من حقبة الأب إلى حقبة الابن. هذا الأب كان رمزاً ينطفىء، وبموته عاد وصار إنساناً فجأة، وصولاً إلى تولّي ابنه الحكم. من المثير أن يُنجز الفيلم في مرحلة يشهد العالم العربي فيها تحوّلات مهمّة، لا سيما في مصر وتونس. الجنون والغضب باتا يجدان طريقاً للتعبير عند أناس يحاولون إبداء رغبة في الانقطاع أو الانشقاق عن الماضي. هذا الشيء عشته بحيثياته كلّها في العام 1999. من المهم استعادة هذا الإحساس الذي كان فيّ آنذاك، من دون اللجوء إلى حدوتة وبكائية الكمنجات. هذا الفيلم موجود بصيغته الحالية، لأني لم أكن أريد خصماً أو غريماً. كل واحدة من الشخصيات خيّرة وشريرة في الوقت نفسه، تبعاً للموقف الذي توضع فيه.

لكن، تناولك فصلاً من فصول التاريخ المغربي على هذا النحو، باللجوء الى أبجديات فيلم الانتقام، من دون العبور بالخط الكلاسيكي من إدانة واضحة لشخصية أو حقبة، ألا تُعدِّه انزلاقاً إلى حضن منتقديك الذين يعتبرون أن الفيلم يلعب بذلك الزمن المغربي الصعب أكثر مما يأخذ موقفاً منه؟

يُظهر الفيلم عملية الانتقام كأنها أبسط الأشياء على الإطلاق. الانتقام لغة فاعلة في الأفلام كلّها والأمم كلّها، والجميع سيفهم معناه. أعتقد أن الجميع سيفهم أن فقدان زوجته التي كانت بوصلة حياته سيجعله شخصاً مختلاً عقلياً. كنا نشعر أنه شخص عنيف عنفاً مينيمالياً ، لأنه كان فناناً في العنف. لكن، في النهاية، تجتاحه غرائز تسبّب قدراً كبيراً من الخسائر. شعرتُ أنه من المثير تلمّس هذه البهيمية في سلوكه. بصرياً، حتى اللحظات التي كنا ننتقل فيها من الوضوح إلى الأقل وضوحاً تُعتَبر انعكاساً لمنطقه الذي كان يغيب ويعود.

في معظم الأفلام المغربية هناك مشكلة حقيقية في استخدام الموسيقى. فالمَشَاهد تغرق في كَمّ من الألحان التفخيمية البائسة، التي تتوسّل عطف المُشاهد بطريقة بدائية. أنتَ ابتعدتَ عن الموسيقى، وفضّلت الأصوات المنبعثة من البيئة التي تُصوّرها.

تغييب الموسيقى عن الفيلم كان القرار الأسهل بالنسبة إليّ، لكن الأصعب لمن عمل فيه، لا سيما المنتجة والمونتير ومهندس الصوت. بوسعي الآن أن أتكلم عن موسيقية الفيلم، حتى لو لم يكن هناك موسيقى. تطلّب الأمر منّي تسعة أشهر من العمل مع الفريق التقني لالتقاط الأصوات الصغيرة وتسجيلها. على الرغم من هذا، لامني البعض على عدم ضع هذا الصوت أو ذاك، لأنه كان يريد المزيد من الانفعال والمشاعر. كان ردّي: إذا شعرتَ بانفعال، لماذا تطلب المزيد؟ سيتحوّل الأمر إلى مهزلة . الفيلم محتشم حتى تجاه الانفعالات التي يثيرها. ولدت انفعالات، ثم كنت أُقدِم على تعطيلها. بهذا المعنى، الفيلم مشيّد أحياناً ضد نفسه. إذا لم أجد استخداماً سينمائياً للموسيقى، فلا رغبة لي في وضع نوتات لأقول: هاكم موسيقى تصويرية . عموماً، أعتقد أننا أمام فيلم لا يسلّم نفسه بسهولة. لكن، ربما يسلّم نفسه لمن يبدي انفتاحاً، ولمن يرغب في مواجهة عمل كهذا، مع احترامنا للجميع. أنا على يقين بالفيلم الذي صنعته.