مهرجانات فى إعادة انتاج الفشل


ما حدث فى مهرجان الإسكندرية السينمائى الذى اختتم فعالياته يوم الأحد الماضى هو بروفة لما يمكن أن تكون عليه أحوال الثقافة والفن فى مصر فى حالة بقاء الأمور كما هى عليه - حالة اللاثورة واللانظام، حيث يختلط الحابل بالنابل، والثورى بالفل والقديم المتعفن بالجديد الغض.

قلت من قبل إن وزارة الثقافة فى عهد المخلوع كانت تعتمد على المهرجانات بشكل أساسى لتصدر للمسئول الأكبر ولوسائل الإعلام وللناس أنها تعمل.. حتى لو كانت هذه المهرجانات لا تعمل شيئًا ولا تحقق هدفًا من أهدافها المعلنة، فى حين تتجاهل أهم وظيفة لها، وهى التثقيف وتطوير الذوق الفنى للجمهور، وكنت من المؤيدين لقرار د.عماد أبوغازى، وزير الثقافة، بتأجيل المهرجانات الفنية هذا العام.. تحسبًا للظروف المضطربة واستعدادًا لتطهير هذه المهرجانات من الداخل لتبدأ بداية جديدة على أساس جديد.

لكن بعض صناع المهرجانات فى مصر رفضوا قرار الوزير وأعلنوا أنهم سيقيمون مهرجاناتهم فى كل الأحوال، وبعضهم أعلن حتى عن إقامة مهرجانات جديدة، فى إصرار شديد على إعادة انتاج الفشل.

النوايا قد تكون حسنة، واقامة مهرجان فنى ليست شيئًا سيئًا فى حد ذاته، ولكن الفكرة هى أن المفهوم الذى سيقام به المهرجان سيظل قديمًا وباليًا وغير مثمر لأى ثمرة طالما أن المناخ نفسه لم يتغير- خذ عندك مهرجان الإسكندرية الأخير هل درى بوجوده أحد من أهل المدينة؟ لا أحد- عروض المهرجان اقتصرت على المركز الثقافى الفرنسى ومركز الإبداع وإحدى قاعات سينما «جرين بلازا» بالقرية التى أقيم بها المهرجان.. الحضور من أهل المدينة على مدار أيام المهرجان يكاد يكون معدومًا إذا استثنينا رواد المركز الفرنسى ومركز الإبداع ممن يترددون على المراكز الثقافية عموما.. وهؤلاء لا يحتاجون إلى مهرجان تنفق عليه الملايين لأنهم يشاهدون نفس النوعية على مدار العام.

الأفلام تعرض فى قاعات خاوية والندوات لا تجد جمهورًا فيتم إلغاؤها حتى لو كانت الندوة عن نجيب محفوظ.

سوء التنظيم تسبب كالعادة فى غضب الضيوف ويكفى أن رئيسة لجنة التحكيم المخرجة الإسبانية «هيلينا تابرينا» قد امتنعت عن الاستمرار فى اللجنة بسبب سوء التنظيم وعرض بعض أفلام المسابقة على نسخ «دى فى دى»، وهروبها من المهرجان قبل حفل الختام.

وليس من قبيل سوء الحظ، بل سوء التخطيط، أن تقرر رئيسة لجنة التحكيم والمترجمة الخاصة بها نزول القاهرة يوم مذبحة ماسبيرو، وهو ما أدى إلى تعرضها للخطر، كما أدى إلى إلغاء عرض فيلمها والندوة التى كان يفترض أن تعقب العرض فى المسرح الصغير بدار الأوبرا.. بسبب قرار رئيس الوزراء بفرض الحداد على نشاطات الأوبرا ضمن باقى مظاهر الحداد على ضحايا المذبحة.

كالعادة أيضا تعرض المهرجان لتردد وعدم حماس المسئولين وعلى رأسهم محافظ الأسكندرية، مما يخلق الإحساس بأن المحافظة لا تريد المهرجان فعلا، بدليل غياب الدعاية تماما واعلان الخوف من السلفيين والمتطرفين، كما لو كنت تنظم عرسًا تنفق عليه الملايين ثم لا تدعو أحدًا لحضوره.

كالعادة أيضا تتدخل المصالح والصراعات الشخصية بين رواد الجمعية التى تنظم المهرجان، فيسعى رئيسها العجوز إلى إفشال المهرجان لأنه لم يعد يتحكم فيه بالقدر الكافى ، ليس فقط قبل انعقاد المهرجان ولكن قبل أيام معدودة من إقامته وحتى أثناء انعقاده.. مضحيًا بسمعة البلد من أجل مصالحه الخاصة كما يفعل كل الفلول كل فى موقعه.

وكالعادة يعتبر المهرجان نفسه ناطقًا باسم النظام والدولة، فيحتل موظفو المحافظة وصحفيو الحكومة معظم مقاعد حفلى الافتتاح والختام.. وهؤلاء يصرخون فزعًا عندما يقوم مخرج شاب بلوم الجيش على مذبحة ماسبيرو، مما يدفعه إلى النزول من فوق المسرح والتسلل هاربًا حتى لا يتعرض لتحرشهم، وعندما يقوم رئيس المهرجان بتحذير مخرج مخضرم من الحديث فى السياسة فوق المسرح.. فيكتفى هو وبقية الفنانين المعترضين على اعتقال الناشطين السياسيين بارتداء «تى شيرتات» تحمل صورة واسم زميلهم طالب معهد السينما المعتقل. حتى لو كان المهرجان يقيم برنامجا لأفلام الثورة ويستعين باثنين من صناعها فى لجنة تحكيمية، فإن العقلية التى تحكمه لا تزال كما هى.

وهذه السلبيات التى تعرض لها المهرجان فى دورته الأخيرة والتى طالما تعرض لها فى الماضى، وسوف يتعرض لها هو وغيره من الأنشطة الفنية فى المستقبل طالما أن النظام القديم لا يزال باقيا فى الحكم سرًا وعلنًا.. وطالما أن العقول القديمة لا تزال تحتل مناصبها فى إدارة شئون هذا الوطن.