هاأرتس الجنرال الصموت طنطاوي

أخبار مصر



القدس العربي :حينما زار رئيس حكومة تركيا رجب طيب اردوغان مصر في الاسبوع الماضي ـ ربما تذكر تاريخ تركيا القريب الذي أداره جنرالات أبغضهم دائما. لكن بعد أن أدار له رئيس مصر حسني مبارك كتفا باردة في حينه، وبعد أن أجل المجلس العسكري الأعلى زيارته مرتين بحجة انه ما يزال مشغولا بشؤون داخلية ـ لم يعد يستطيع الانتظار الى ان ينشأ في مصر نظام مدني.

جلس قبالته الجنرال (أو 'المشير') محمد حسين الطنطاوي، الذي يترأس الدولة. لم يتصور الطنطاوي أن يترأس الدولة لكن حتى لو كانت له مطامح سياسية فقد اهتم مبارك دائما بابعاده عن السياسة ومنحه مقابل ذلك يدا حرة في تصريف أمور الجيش وبناء قدرات مصر. من وراء الطنطاوي ابن السادسة والسبعين ـ ووضعه الصحي ليس في أحسن حالاته ـ تاريخ عسكري طويل، يبدأ بحرب سيناء في 1956 ثم حرب 1967 وحرب يوم الغفران (التي حارب فيها في المزرعة الصينية). وقد أدى في جميع الحروب أدوارا قتالية، وكان من جملة ما كان قائد الحرس الرئاسي ورئيس شعبة العمليات في الجيش المصري.

تلقى تعيينه وزير دفاع ورئيس اركان من مبارك في 1991 وخدم عشرين سنة الى أن تم تعيينه في كانون الثاني (يناير) 2011 (إثر المظاهرات) نائب رئيس حكومة مصر، وتحمل في 11 شباط (فبراير) منصب 'المدير العام للدولة' الذي سيشغله حتى الانتخابات الرئاسية.

الشيء العجيب هو انه لم يُسمع حتى الآن، رغم ولايته الطويلة تحت ظل حكم مبارك وحقيقة انه كان جزءا لا ينفصل عن النظام القديم، طلب إبعاد الطنطاوي أو محاكمته لا هو ولا عمر سليمان الذي هو من أساطين نظام مبارك القديمة. صحيح أن الطنطاوي تلقى في مظاهرات نيسان (ابريل) وفي المظاهرات الاخيرة ايضا انتقادا لكونه مستبدا عسكريا وبسبب بطء تحقيق مطالب حركات الاحتجاج، لكن هذا لا يغطي على انجازه الضخم وهو وضع الجيش الى جانب الجمهور وفي مواجهة الرئيس.

لا يخطب الطنطاوي ولا يعطي مقابلات صحافية. ويسمى لهذا احيانا 'المشير الأبكم'. ويمكن أن نستدل على مواقفه وتصوراته من وثائق 'ويكيليكس' التي تقول ان معارفه أبلغوا السفير الامريكي في القاهرة أن 'الطنطاوي يعارض كل تغيير، فهو محافظ وشكاك وداهية'. لم تحتج الولايات المتحدة الى برقيات سفرائها لتعرف مواقف الطنطاوي.'ففي كل مرة حاول الامريكيون اقناعه بتغيير بنية الجيش وملاءمته للبنية المعتادة في الولايات المتحدة، رفض الاقتراحات بأدب يميزه، وبفكاهة وتصميم.

عارض بقوة بحسب بعض البرقيات نية مبارك أن يورث ابنه جمال سلطته الى درجة أن أصبح في محيط جمال 'هدفا' ينبغي أن يُهزم. ولم يعارض الطنطاوي التوريث فقط بل الخطط الاقتصادية الطموحة لجماعة جمال مبارك التي رأت الخصخصة هي المشهد العام.

وكان لمعارضته سبب عملي ايضا: فهو لم يشتر بالميزانية الضخمة التي يتولى زمامها (تتحدث التقديرات عن مبالغ بين 5 مليارات دولار الى 20 مليارا) سلاحا ومعدات فقط. فقد أصبحت اراضي الدولة التي أُنشئت عليها في البدء معسكرات للجيش، أصبحت اراضي تطوير انشأ الجيش عليها قرى استجمام ووحدات سكن للمواطنين. حصل الجيش في الثمانينيات على رخصة وارض لانشاء 13 'مدينة عسكرية' حول العاصمة القاهرة، سكن كل واحدة منها نحو 250 ألف انسان واشتملت على مستشفيات، ومدارس، ومساجد وسائر الخدمات العامة. بعد ذلك أُضيفت اليها 10 مدن اخرى. وقد عمل في هذه المدن جنود في فترة خدمتهم الاخيرة، وهكذا أدخل الجيش رجاله في سوق العمل بلا صعوبة.

وقد طور الجيش ايضا نظام انتاج مستقلا يشتمل على مخايط ومخابز ومصانع لتركيب السيارات ومحالب ومصانع لانتاج الاغذية استُعمل فيها جنود أجورهم أعلى من المعتاد في السوق المصرية«'وبهذا أسهم الجيش في انشاء طبقة وسطى نخبوية تمتعت بنوادٍ تخصها، وبطاقات تخفيض، وتفضيل في المدارس ورحلات استكمال الى الخارج لضباط في المستويين المتوسط والأعلى. إن الجيش لا يدفع ضرائب ولا توجد رقابة برلمانية على نشاطه، لأن اللجنة البرلمانية المسؤولة عن الرقابة عليه مشحونة بعسكريين ورجال شرطة سابقين مقربين من القيادة العليا. وكل تغيير خطط له جمال مبارك كان يمكن، كما خشي الطنطاوي، أن'يضر بمكانة الجيش الاقتصادية ومن يخدمون فيه في الأساس.

لكنه يوجد جانب ايجابي ايضا لمحافظة الطنطاوي. وهو يتعلق بتمسكه بالمبدأ الذي يقول ان اتفاقات كامب ديفيد هي أهم سند أمني لمصر في كل ما يتعلق بالحفاظ على علاقتها بالولايات المتحدة ومنع حرب اخرى مع اسرائيل.

ما يزال الطنطاوي لم يشهد في محاكمة مبارك فقد أجلت زيارة اردوغان الشهادة. وحينما يشهد ايضا ستكون شهادة خلف أبواب مغلقة يستطيع بعدها مؤيدو مبارك ومعارضوه نشر اشاعات عن مضمونها. لكن لا شك ان هذا العسكري الانطوائي في يده حسم مصير مبارك: هل مبارك مسؤول عن قتل المتظاهرين، وهل نفذ جرائم في 'الأمة المصرية' أم ان الحديث عن رئيس مستقيم طالت ولايته أكثر مما يجب قليلا.

سيستمر الطنطاوي والجيش الذي يتولى قيادته فضلا عن مسألة مصير مبارك، وبفضل الذخر السياسي العظيم الذي اكتسبوه زمن المظاهرات، في كونهما 'حاميي الثورة'، حتى في مواجهة كل حكومة مدنية ستنشأ بعد الانتخابات. إن من يبحث عن تقليد للنموذج التركي لا هذا الحالي الذي يُبعد فيه اردوغان الجيش عن السياسة بل ذاك السابق فانه يستطيع ان يجده في مصر بعد ذلك

هاارتس 19/9/2011