عرفات والنفحات الجميلة ..

إسلاميات


كتب - أحمد إبراهيم مرعوه

دائما تهب علينا الرياح العطرة من الأماكن المقدسة، فتحمل معها الشوق والحنين للعودة إليها مرة أخري. ولأننا نعيشها ونتعايش معها بفضل من الله ورحمته منذ أن وطأتها أقدامنا قبل ذلك، فإننا نعيش هذا الحدث الجميل علي مر الثواني والدقائق قبل الشهور والدهور.

فمن ذاق من فضل الله، لا ينسي تلك النفحات، وكيف ينسي الإنسان الهواء الذي يستنشقه وخصوصا إن كان نقيا، والقلب صفيا تقيا، لربه رجيا (نتمنى أن نكون منهم) فما أحلى تلك الأيام.. كنا نحياها في ود ووئام.. ألا من عودة !

ولكثرة هذه النفحات.. كانت النفس ومازالت تموج بين الموجات الكثيرة المتلاحقة من فيضانات الغيث ما بين حنين وعشق، ولهفة وشوق، ومودة ورحمة، ونفحات وهمسات، وحفيف أوراق أشجار عرفات التي تلاطفك وتداعبك وأنت تمر بينها ما بين آونة وأخري ،وكأنها تداعب الوجوه الحالمة، التي أتت إلي هنا قاصدة لسحر الجلال الذي كانت ومازالت النفوس تقصده.

قل ما شئت.. وأنا.. فإنك لا ولن تنتهي من الموجات المتلاحقة من التعبيرات المتسابقة في صراع جميل، تصارع الكلمةُ فيه أختها.. كي تعانق الهدف النبيل من سمو المعاني قبل الأحرف، وكأنها تريد أن تقول لكل من أراد الكتابة بها ليعبر عما رأي واستشعر، إنك لن تستطيع أن تجسد الروحانيات في كلمات.. فهيهات لك هيهات.. أن تترجم النفحات في كلمات، إنك لا.. ولن تستطيع أن توفي هذه النفحاتُ حقها في كلماتِ كالبنيانِ المرصوص، وهل تُرتَبُ الكلماتُ وتنمق في مثل هذا المقام، وإنك تنتقل من حدث لآخر وبسرعة خاطفة كالأمواج المتلاحقة فكيف لك أن تختزن كل هذه الرؤى المتعددة في عقلك وقلبك، وقد كانا لكل منهما عالمه الذي يهيم فيه(عالم الذرة الروحانية) وقد كانت لكل منا أيضا أمواجه وموجاته المتعاقبة، وكل منا رأي ما رأي.

والسؤال هنا.. هل كان استشعار الروحانيات علي مستوي الجمعِ واحدا، بالطبع لا.!!!

وكما لكل فرد منا أحاسيسه و تعبيراته..أظن أيضا أنه كان لكل إنسان عايش هذا الحدث العظيم في اليوم العظيم..تعبيراته الخاصة به حسبما رأي واستشعر، وليس بحسب ما رأي الآخرون.

فكيف لنا أن نجمع كل هذه التعبيرات وسط كل هذه الأمواج الروحانية التي إن دخلت في واحدة منها أحالتك إلي أخريات متشابهات، لتشعر بكل شيء يتغير بدواخلك ومن حولك،وستنسي كل ما دنت له النفس وتطرقت إليه من قبل، وستسبح في عالم كله حقيقة (في زمن فقدت فيه الحقائق وتاهت !)

أما الحقيقة هنا..أنك بين يدي الله في أماكنه المقدسة، ويتوج هذا كله في يوم عرفه، ونزول الله عز وجل إلي السماء الدنيا بنزول لا نعلم كيفيته، ويباهي بنا الملائكة، ويغفر فيه لمن يشاء من عباده، والأحاديث في ذلك كثيرة ومعروفة.. (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله عز وجل فيه عبدا أو أمة من النار من يوم عرفه ) حديث شريف.

وإبليس يجري ويهرب ويحثوا التراب علي رأسه في المزدلفة ويدعو بالويل والثبور اللذين نزلا به حزناً وغما (فلقد غفر الله أيضاً للظالمين!) حتى أضحك منظره الرسول صلي الله عليه وسلم.. إذاً هو النعيم الذي لا ينسي !

فلا يمكن لنا أن ننسي تلك الأيام، أو تُمحي من الذاكرة، وكيف لها ذلك، بعدما أصبحت الكيان والروح والهدف، وذابت في النفس والقلب والمشاعر، وهي التي تبقي ما بقي الدهر(إن شاء الله ) فهي أيام ولادة الإنسان من جديد، بل إن شئت فقل الولادة الحقيقية .. ولادة خَلق‘ وخُلق . (كما قال إمام الدعاة الشيخ/ محمد متولي الشعراوي ..رحمة الله علية).

هكذا كنا نستشعر أننا نسير نحو الهدف، والمشاعرُ فياضة، والنفس تصفو وتصفو، وكلما صفت اصطفت، وإن اتقت ارتقت وبقت ، فقد كنا نمشي في بداية الطريق نريد الفوز برضوان الله قبل النجاة من الحريق، فكل منا يمشي علي طريق، فمنا ما يصل إلي الحريق، من هو في ملذاته غريق، ومنا ما يصل إلي النعيم بعبوديته الخالصة لله، فجمع بين أصالة المعدن الطيب وبريقه.

كنا ندعو الله أن يجعلنا من أصحاب المعدن الطيب ،كنا نجوب الأرض، كأننا نبحث عن مواطئ أقدام النبي والأنبياء، كما شعرنا بذلك ونحن نصلي في مسجد الخيف،فقد كنا نحاول أن نري ما لم نره من قبل أن نعود ثانية إلي بيت الله الأعظم سجدا (اللهم زده تعظيماً وتشريفاً) بعد أن نطوف حول الكعبة المشرفة ونلمسها قبل الموت أولاً، وننظر في سمائها فسماء الكعبة ..كعبة !( الشعراوي).

قد كان نعيما لا ينسي، بعد أن منا الله علينا من عطفه وكرمه..ولما لا (فكم من أناس استطاعوا وما حجوا لأسباب يعلمها الله وحده ،إذا فالله مصطفيك بعنايته).فالحج للأغنياء واجب محتم عليهم والفقراء الذين لا يملكون قوت يومهم ولا يجدون ما ينفقون سقطت عنهم الفريضة ، أما أنت يا من تكون في وسط القائمة بين هذا وذاك ..مجرد الاستطاعة وجبت عليك المبادرة مخافة أن يدركك الموت فتموت مجوسيا أو نصرانيا أو يهوديا.. فأحذرها ..فالاستطاعة أنت وحدك الذي يدركها فلا تؤجلها وانجو بنفسك اليوم قبل غد.

ثم صلينا بمحاذاة مقام إبراهيم ألذي كان أمة، ورأينا موضع أقدامه.( وله في ذلك قصة معروفة)وبعد ذلك سعينا فبكينا ،وشربنا فارتوينا.. بين الصفا والمروة، وتذكرنا ما فعلته السيدة هاجر وهي تجوب الأرض بحثا عن الماء بينهما وهي كبيرة السن وطفلها رضيع في سبعة أشواط لتتعدد الأسباب في البحث عن الرزق عليً مُجمَل الإطلاق، ولِمَاذا خلق الله الكون ما نعلم منه وما لا نعلم في ستة أيام ،وهو الذي يقول للشيء كن فيكون!

هكذا كانت تسعي وهي كبيرة السن في واد غير ذي زرع عند البيت المحرم دون ملل أو كلل كانت

تبحث وكلها ثقة بالله في وجود الماء فهي التي قالت إذا لن يضيعنا الله.

أما نحن وكنا شباباً نَسعىَ.. سَعَيْنَا. وبرغم أننا كنا نري الماء رؤيا العين، بل شربناه في كل شوط مرات ومرات تعبنا. ولماذا تعبنا!

لماذا تعبنا.. والأرضُ الآن مبطنة بالرخام المكيف أسفلهُ، وبالأسقف الجميلة المظللة، ومياه زمزم في الوسط، والأكواب البلاستيكية التي تستعمل لمرة واحدة لكل علي حده، ربما لضعفنا في آخر الزمان، أو لمرضنا بسبب كثرة الطعام المغشوش والأغذية الملوثة التي أكلناها ومازلنا أو اللبن المغشوش المزود بالماء

الملوث، والمغشوش أيضاً من أصحاب الذمم الخربة التي ربما كانت تحج معنا أيضاً، أو المواد الحافظة أو الأغذية المسرطنة أو المواد المشعة، أو الزراعات التي كانت ومازالت تتغذي علي مياه المجاري بقصد وبغير قصد، أمْ لأن عصرهم كان عصر التقوى واليقين بالله.. إنه كان العصر النظيف الذي كان الرجلُ يهدُ فيه جبلاٍ!

أما الآن..فإنك تستطيع بحجر واحد أن تمُيِتَ منا رجالاً وعيالا..ً ولا تلقي لهم بالا..ً

في زمن فُقِدتْ فيه العودة إلي كل ما هو جميل،ولجأنا إلي كل ما هو بديل .

لجأنا إلي الجهل وجعلناه بديلاً عن العلم، وأبدلنا الصراحة بالنفاق، والشهادة الحق بالزور، والأخلاق

بالفجور، ونَحْينَا الدين جانباً، وأصبح بعض الرجال الذين لا يرتقون وهذه الكلمة( مخنثون) لا يهمهم

مخالطة نسائهن بالرجال، بحجة العصر المتحرر، وهو فعلاً متحرراً من الأخلاق في معظمه، وخاصموا من

يعتنقون الأخلاق، لا لشيء فعلوه، ولا لزنب ارتكبوه ..سوي أنهم جعلوها منهجا ويقيناً لهم في الحياة!

لذا نرجوكم أن تعودوا إلي الزمن الجميل، وأن تغتنموا هذه الأيام في التصالح مع النفس، ثم التصالح مع العباد الذين خاصمتموهم لا لشيء سوي أنهم يحبون الله ورسوله ، ويكرهون الزور،ويخافون أن يقذف بهم في النار، ولا يحبون مجالس مخالطة النساء بالرجال، والنظرات والابتسامات والمداعبات والملاطفات ومن بعدها الوقوع في المحظور، فتسوء الأمور ويستفحل الفجور.

وتذكروا يوم النشور، وتصالحوا مع الله ، فهو المُصلح لكل اعوجاج.

وها هو يوم عرفات.. اغتنموه قبل الممات. والله المستعان.