ثورة الشك والانتقام!

مقالات الرأي


وهكذا يتبين لنا مع توالي الاحداث أن الثورة المصرية تحولت من ثورة على الفساد، من ثورة لاسترداد كرامة المواطن المصري، وفتح باب الأمل في غد أكثر إشراقا بعد سنوات من الظلم والظلام، إلى ثورة الشك والانتقام.

الشك في كل شيء وأي شيء، الشك في النوايا والدوافع والسلوك من كل الأطياف والأحزاب والحركان والاتئلافات، تجاه كل الأطياف والأحزاب والحركات والاتئلافات.

الشك هو سمة مرحلة ما بعد الثورة.

والشك يؤدي بنهاية المطاف إلى التخوين..

والتخوين يؤدي إلى الهلاك..

هلاك للجميع دون تحقيق مصلحة لأحد، ولا أي تقدم لوطن حلم بالتقدم، تخوين يؤدي للفقر والعجز والتردي، بعد طول معاناة لشعب عانى طويلا من الفقر والعجز والتردي، شعب كان ضائعا بين أروقة الفساد أصبح أكثر ضياعا وهو في دائرة الشك والتخوين..

ثم تحولت لثورة الانتقام، انشغلنا بالانتقام عن البناء، انشغلنا بالتحدي في أن نصل بالنظام القديم إلى المحاكمات، عن التحدي الاكبر في إدراك الحكمة في كيف يهب الله الملك لمن يشاء وينزع الملك ممن يشاء، فنتوكل عليه وبمتثل لأمره، ونبني وطننا على أسس من قيم عليا علمنا إياها في كتبه السماوية، وتعاليم الأنبياء الروحية.

جئنا بمبارك من شرم الشيخ.. لنشفي الغل ونروي الثأر، ونهدئ من الرغبة العارمة في الانتقام التي غزاها إعلامنا الجليل بكل اشكاله وألوانه، وصار السباق محموما حول من يكره أكثر، من يأتي بماء الغل ايروي أرض الثأر.

أجلسنا مصر كلها في المحكمة..

أخذناها لتقع في براثن الكراهية، وحجبناها عن أغلى القيم التي جاءت لها وبها الثورة.. أن نرتفع بالقيم الإنسانية، لنستطيع أن نبني الإنسان القادر على بناء الوطن..

هلل الإعلام لصورة الرئيس السابق وهو ممدد على فراش المرض، وهو يقبع داخل زنزانته، وأمامه ولداه يحاولان أن يخفيا وجهه عن كاميرات الغل والتشفي، وري الأرض بماء النار التي تحرق القلوب، فإذا قلت لهم ايها الناس كنا نريدها ثورة قيم، وارتفاع عن المشاعر الدنية، لنرتفع إلى المثل العليا وسلوك النبلاء، اتهموك أنك من الفلول، أو من الذيول، أو من البقايا، وكان التخوين هو نصيبك من هذه المعركة الخاسرة في زمن الشك والانتقام.

أرى أن وجود الرئيس السابق في زنزانته بهذه الصورة أكبر ضربة للثورة في مقتل!

أرى أن ثورتنا تقبع في سرير خفي داخل القفص ممددة بجوار مبارك تنتظر أن تفرجوا عنها من هذا القفص البغيض.

الله يستحي بنص حديث النبي أن يعذب شبيبة شابت على الاسلام، ونحن نأتي برجل في هذه السن ، ونصوره ممدا إمعانا في إذلاله، من أجل أن نقول أن ثورة مصر تحقق العدل، وما هو بعدل بل هو ثأر وتشف بغيض.

لم نتذكر للرجل عملا واحدا قدمه لهذا البلد، لم نستطع أن نعفو ونصفح، لم نفكر حتى في أنه لم يهرب وقد كان في مقدوره، ولم يستمر ويحول مصر إلى بركة من الدماء وقد كان في اسستطاعته، لم نتذكر له أي شيء طيب فعله، وهكذا نحن حين نكره نظلم، وكأننا قوم إذا قدرنا تجبرنا، وأذا ملكنا طغينا.

ولكن من يجرؤ على قول هذا؟

من يستطيع أن يقف أمام هذا الطوفان الجارف ليقول ليس بمحاكمة مبارك والإتيان به على كرسي متحرك هو ما سينقذ مصر مما هي فيه؟ وأننا لو اتخذنا من العفو عنه سلما لارتقينا بانفسنا ووطننا إلى ما فوق ضغائننا وأحقادنا.



من لا يخشى على نفسه من أن يقصف قلمه؟ أو يصاب في رزقه؟ أو يهدد بالقتل والتشريد بين أطفاله؟ كما يحدث لمن يتكلمون بهذا؟

ثمانية أشهر من الشك والغل والأحقاد..

يتخللها صراع بين القوى السياسية على الزعامة وملك مصر..

كل هذه الخلطة العجيبة التي أعادت مصر لعصور الظلام البائدة، تنغمس في بحر من الطمع والتخوين.

ترى في وطن كهذا إلى أين نحن ذاهبون؟

كنت أتمنى رؤية وجه مصر في صورة أفضل بعد الثورة.

كنت أتمنى أن لا تكون سياسة الإقصاء هي منهج النخبة التي ظهرت على الساحة.

كنت أتمنى ألا يكون الصراع على من يحكم يف الفترة القادمة، بل يكون التسابق على من يقدم لهذا الشعب الذي انهكه الفساد، وجبه من الحب والأمل بدلا من أن يقدم له كوبا من الماء مسموما بسم الأحقاد والشك والتخوين.

ولا أجد ما أختتم به مقالي هذا سوى أن أبعث برسالتي هذه لكل ذي عقل في هذا البلد:

في وطن لا يسمع فيه الغالبية إلا صوت أنفسهم

في وطن يتكلم فيه بالقيم قوم لا يقدرون لها حقها

ويطالب فيه بالعدل قوم ظالمون

في وطن تنازع فيه النخبة على فتات المائدة الكاذبة

فضاعت الحقوق وتاهت السبل

لابد أن يتلون وجه الحقيقة

ويصبح من ليس معي فهو ضدي

فاللهم احفظ مصر وأهلها من شرور من يظنون أنهم أخلص مخلصيها

بعد أن رحمتها وخلصتها من كثير من شرور مفسديها

وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين