التحليل النفسي لجيل ثوار التحرير

أخبار مصر


كتاب أمريكي جديد لرسم ملامح ثورة مصرية بلا قائد:


التحليل النفسي لجيل ثوار التحرير


اقرأ هذا الكتاب لو أردت أن تفهم تفكير جيل غيَّر بلد في لمح البصر.. وانتزع حقاً سلبه صمت من سبقوه بعشرات السنين.. اقرأ هذا الكتاب لو كنت حتي هذه اللحظة لا تفهم نفسية الثوار في ميدان التحرير.. أو إصرارهم علي مواصلة ثورتهم.. أو حتي لو كنت تواجه شاباً في بيتك يصرخ منادياً بالتغيير حتي وإن لم يكن تغييراً سياسياً.. هو كتاب أمريكي جديد أطلق في الأسواق منذ أسبوع وحمل عنوان: عاصفة رملية.. ثورة بلا قائد .. ليحاول فهم عاصفة التغيير التي جرفت أمامها كل شيء من ميدان التحرير ولا تنوي التوقف أبدا عند مستشفي شرم الشيخ.

كان الكتاب، علي العكس من كل الكتب الأمريكية المتخبطة التي ظهرت بعد الثورة.. تلك التي تحاول قراءة واقع لا تفهمه.. ولم تكن تتوقعه.. بأداء يفتعل المعرفة والعمق.. كتابا صريحا.. صادقا.. قضي مؤلفوه وقتا طويلا يستمعون قبل أن يقرروا الكلام.. ودخلوا في صلب الموضوع مباشرة دون إضاعة الوقت في الحديث عن عنصر المفاجأة الذي سببته الثورة المصرية للعالم.. بل حاول فهم نفسية الجيل الذي قام بهذه الثورة كي يفهم أسباب ومسار هذه الثورة.. التي بدأت وتطورت.. دون أن يكون لها قائد واحد.

لو ألقينا نظرة علي الجيل الذي قام بالثورة، كما فعل الكتاب الأمريكي، لوجدنا مثله، أن معظم أبناء هذا الجيل ولد بعد عام 1980. يمثل ما يزيد علي نصف الشعب.. وعلي العكس من الجيل الذي سبقه، والذي كان يتعامل مع التكنولوجيا الحديثة بنوع من الانبهار والدهشة.. يتعامل جيل الشباب مع التكنولوجيا علي أنها جزء من حياته.. بل .. وينتظر من حياته أن تسير بوتيرة التكنولوجيا التي اعتاد عليها.. دائما تحديث مستمر.. دائما هناك ما هو أكثر تطورا.. ودائما هناك ما هو أفضل.. وربما كانت تلك النقطة هي التي تفسر المطالب التصاعدية التي كان الثوار يطالبون بها في الأيام الأولي للثورة.. وعدم رضاه عن الإصلاحات الجزئية .. التدريجية التي قدمها له نظام مبارك قبل تنحيه.. علي الرغم من أن أهلهم، كانوا يرضون بما هو أقل منها بكثير.

جيل صعب أن تخدعه أو تخدره بالإعلام الذي خدر أهله فهو يمتلك كل المعلومات من كل الزوايا وبكل الروايات تحت يده بضغطة زر.. في أي وقت.. وفي كل لحظة.. لو حدث خلاف بسيط بينه وبين أستاذه في الجامعة علي معلومة ما مثلا، فأسهل ما عنده هو أن يعرف الحقيقة من بحث عبر موقع جوجل.. ويستخدمه لبناء حجة ورأي قوي يناقش به من يعارضه.. ولو تواجد في مكان لا يعرفه، فأسهل ما عنده هو أن يفهم كل المعلومات الخاصة بالمكان الذي يوجد فيه في لمح البصر.. بالانترنت.. عبر الكمبيوتر المحمول.. أو الموبايل.. أو الأي باد.. أو غيرها من عشرات الوسائل التكنولوجية التي صارت تلعب دور طرف إضافي في جسده.. وعقله.. الأمر الذي كسر فيه نقطة الخوف من المجهول، ومما يمكن أن يحمله الغد، لو تغير الحال عما اعتاد عليه.

جيل مسلح بفضيلة المعلومة.. والمعرفة.. هو جيل قادر من دون شك علي اقتحام المواقف الجديدة.. قادر علي أن يختبر بنفسه ودون خوف واقعا جديدا لم تفكر الأجيال السابقة عليه في تغييره.. لقد كان التغيير فكرة بعيدة عن الجيل السابق في الوقت الذي كان يمثل فيه عصب جيل الشباب.. وهو ما صنع تلك الفجوة النفسية الرهيبة بين جيل صنع موقفه في قلب ميدان التحرير.. وجيل ظل علي موقفه الثابت.. الصامت لثلاثين عاما.. بجوار الحائط.

كانت التكنولوجيا نعمة ونقمة علي جيل شباب الثورة.. بها سيطروا علي عالم وعلي احتمالات كان أهلهم يتعاملون معها بصعوبة شديدة.. لكنها تسببت أيضا في لعنة ظلت ملتصقة بهم لوقت طويل.. لعنة فقدان الهدف.. أو القضية.. كان الشاب يبدو كأنه ينهي تعليمه.. ثم يقضي حياته في وظيفة يطمح منها أن يحيا علي طريقة المواطن العالمي في أمريكا أو في دول آسيا.. حياة مرفهة.. يمتلك فيها أحدث السيارات.. وأحدث الأجهزة التكنولوجية.. ولا يشغله إلا الطريقة التي يمكن أن يمتلك بها أكثر.. وهو ما جعل صفات مثل الكسل.. وانعدام الإحساس.. وضياع الهوية والهدف.. تلتصق به.. صار جيلاً أنانياً لا يفكر إلا في نفسه.. ويعتبر نفسه محور الكون.. وعاني الشباب المصري من اتهامه بالجبن.. وبالتخاذل .. وبأنه جيل لا يجرؤ علي التغيير.. يتعرض لمقارنة ظالمة بأهله الذين واجهوا كل الأزمات والحروب.. في الوقت الذي لا يجد هو فيه حربا تشكل علامة فارقة في حياته... ولا قضية يصطف خلفها علي اختلاف طوائفه ومستوياته الاجتماعية والثقافية.

لكن ما لم يفهمه كل من كانوا يتحدثون إلي ثوار التحرير بلغة التخويف.. والتلويح بالأجندات الخارجية التي تحركهم.. هو أنهم يخاطبون جيلاً لا يتعامل بمنطق الرعب من الآخر واعتباره عدوا بلا أدني احتمال لأن يكون صديقاً.. لقد كسرت الإنترنت.. وتوصيلها كل أطراف العالم ببعضه تلك الحواجز النفسية وحتي المكانية بين الناس.. من الممكن جدا أن تتواصل مثلا مصممة أزياء مصرية بمحل أزياء في أمريكا لتعرض تصميماتها فيه.. وأن الشركات متعددة الجنسيات التي يعمل بها عدد كبير من المصريين تجعلهم يختلطون بمختلف الجنسيات ويجدون معهم أن ما يوحدهم أكثر بكثير مما يفرق بينهم.. تجمعهم أرضية العمل المشتركة.. ونفس المحل الذي يصنع قهوتهم المفضلة في القاهرة أو في روما أو في نيويورك.. مثلا.

كانت علاقة الشباب المصري بالعالم علاقة متداخلة.. حميمة ومعقدة.. صحيح أن سياسات الإصلاح الاقتصادي في سنوات مبارك الأخيرة، جذبت استثمارات أجنبية بالفعل، إلا أن معظم أصحاب الاستثمارات الأجنبية في مصر كانوا يأتون من بلادهم بخبراء وموظفين للعمل في استثماراتهم في مصر.. بينما لابد أن يكون المصري الذي يعمل بتلك الشركات علي مستوي من المهنية والكفاءة يندر أن يوفرها التعليم المصري الكسيح.. فالواقع أن معظم المصريين ليسوا مؤهلين لمنافسة الموظفين الأجانب.. ولا للدخول في سوق العمل العالمي.. تضاعف الحكومة من أعداد الخريجين الجامعيين وتركز علي أرقامهم وليس علي رفع مستوي تعليمهم.. فصنعت أعدادا هائلة من الخريجين ، تصوروا أنهم وصلوا إلي قمة السلم الاجتماعي بالشهادة الجامعية، فقط ليصطدموا بأرض الواقع العالمي.. وبحكومة لا تعرف سوي خذلانهم بعد تخرجهم بكل الطرق.

أثبت جيل الثورة أنه قادر علي ما لم يقدر عليه من سبقوه.. قادر علي أن يستمع إلي بعضه.. حتي لو لم يستمع للكبار الذين فقد الثقة فيهم.. وأن يضع كل وجهات نظر من يعرفهم مباشرة أمام عينيه ثم يفاضل فيما بينها.. حتي وإن لم تكن وجهات النظر الرسمية المفروضة علي الكل.. علمته التكنولوجيا أن هناك دائماً بديلاً للموقف الراهن.. وانه حتي لو لم يظهر هذا البديل اليوم فسيظهر غدا.. لأن الغد يحمل دائما احتمالا آخر مهما بدت كل الطرق مسدودة.. علمته مواقع التواصل الاجتماعي أن كلمته مسموعة فقط لو اتخذ قرارا بالكلام.. وعلمته كل مواقع الانترنت المفتوحة أنه قادر علي فهم كل ثقافات وأحداث العالم بنفسه وطريقته دون الحاجة إلي مرشد أو موجه.. أنه قادر علي متابعة الأحداث ليس عبر شاشات التليفزيون التي تتحكم بها عيون وأهواء مراسلين أو سياسات قنوات.. وإنما عبر روايات أشخاص مثله.. يتشابهون معه في الرأي والتفكير حتي وإن كانوا ينتمون إلي ثقافات أخري.. يعرف عنها، بحكم تواصله المباشر بأهلها.. أكثر بكثير ممن يعتبرونها مجرد أجهزة وأجندات.

صار لدينا في مصر في السنوات الأخيرة.. جيل مكون من قوة عاملة ضاربة من الشباب.. كلهم في أوائل العشرينيات والثلاثينيات من عمرهم.. جيل الألفية كما يطلق عليه الكبار المغرمون بالتصنيف والتقسيم.. نفس الكبار الذين سبوا جيل الشباب بأقذع الألفاظ قبل الثورة.. وصفوه بأنه جيل عاجز.. كسول.. لا يطيق النقد.. ولا يمكن وصفه إلا بأنه جيل ضائع .. بلا هدف.. ولا هوية.. عاجز عن إحداث أي نوع من التغيير في واقعه وعالمه.. وغير راغب في إحداث هذا التغيير.. هذا إن كان يشعر أن هناك ما يحتاج لتغيير أصلا.

كانت الأصوات التي تنتقد جيل الشباب قبل الثورة هي الأصوات الأعلي التي حملته كل خطاياها ونتائج فشلها المتواصلة.. لم ينتبه أصحاب هذه الأصوات إلي تلك الطاقة الهائلة المختزنة في خلايا شباب.. متدفقة بالحيوية والطاقة.. قادرة علي الإنجاز.. وعلي إثبات نفسها في كل فرصة تحظي بها مهما كانت محدوديتها.. كانت هناك سمة أساسية يتمتع بها جيل الشباب في مصر دون أن يتمتع بها أي جيل ممن سبقوه.. هي قدرته الهائلة علي التكيف السريع علي الظروف التي تحيط به.. وبراعته في التعامل مع كل الأوضاع السياسية والاقتصادية التي تتغير من حوله تغيرا سريعا.. مهما كانت.. بشكل لا يستوعبه من يفوقونه سناً ومقاماً.. وخبرة.

والواقع أن العامل الأساسي الذي خلق في جيل الشباب صفة التأٌقلم مع كل المتغيرات المحيطة به كان الانترنت.. وسيلتهم التي ولدت معهم للتواصل مع العالم من حولهم.. وكانت هي الساحة الحقيقية، التي تشكل فيها وعي الشباب المصري.. بعد أن تعلم فيها، عمليا، أول معاني الحرية.. حرية التعبير عن الرأي في بلد لا يقول فيه أحد أبدا ما يعنيه.. ولا يطالب فيه أحد بما يريده.. فصارت الانترنت.. بسرعتها.. وتغيرها.. والتحديث الدائم في مواقعها.. ومدوناتها.. وحساباتها.. صاحبة البصمة الأساسية في تشكيل جيل كامل لا يمنحه أحد فرصة الكلام.. ولا يفهم أحد معني صمته.

منحت الانترنت، بمواقع البريد الالكتروني أولا، ثم التواصل الاجتماعي ثانيا، فرصة للشباب لكي يتواصلوا مع بعضهم علي المستوي الشخصي.. الانساني والمهني.. مع بعضهم ومع شباب من حول العالم يماثلونهم في السن ويتشابهون معهم في التجارب والظروف.. صار من السهل علي المصري أن يوصل رأيه لصديق أمريكي.. وصار من العادي بالنسبة لصديق إنجليزي أن يتابع التطورات التي تحدث في مصر أولا بأول بلسان صديق مصري.. يعرف لغته ويعبر عن نفسه بها.. تفاعلات بشرية تتم في كل دقيقة بسرعة لا يمكن أن يتخيلها إلا من كان جزءا منها.. وكانت جزءا منه.

لكن.. يخطئ كثيرا كل من يصف الثورة المصرية بأنها كانت ثورة فيس بوك أو تويتر.. أو أنها ثورة انتصار الانترنت علي الوسائل التقليدية.. لقد كان الشباب يفهمون جيدا حدود الانترنت.. وإمكانياته.. وأن نقطة قوته الحقيقية تكمن في قدرته علي حشد الناس وتنظيمهم للقيام بثورة.. لكنه ليس أبدا عصا سحرية لإشعال ثورة.. أو تحقيق نجاحها دون أن يساندها الشارع وباقي القوي في المجتمع.. لقد كانت الثورة المصرية انتفاضة جيل قرر أن يأخذ حقه في حياة كريمة ضد كل الظروف والضغوط التي تنتزع منه هذا الحق.. وخاصة، ضد طبقة تمتص كل المزايا، وكل فرص العمل اللائقة في المجتمع المصري دون أن تهتم بالاستماع للطبقات الأخري.. التي تكتفي بالتكيف.. وسيلتها الأساسية للتعامل مع الحياة.

لقد ظل الناس في مصر يعيشون في حالة من الفقر واليأس من إصلاح الأحوال.. في الوقت الذي تزداد فيه الطبقة الراقية في مصر عزا.. وثراء.. لم يعد التعليم يحمل أي قيمة ولم يعد هناك معني للسعادة.. وصار الرضا فكرة خيالية لا يمكن أن تجد لها مكانا، في واقع يصل فيه الشباب إلي سن العمل، فلا يجدون وظيفة.. ولا فرصا.. ولا حقوقا.

كان علي الشباب في مصر أن يتخذوا القرار.. إما أن يرضخوا.. وأن يعانوا في صمت علي طريقة آبائهم.. أو أن يخلقوا التغيير بأنفسهم.. بأيديهم.. وبأي طريقة يجدونها أمامهم.. إلا الطريق السياسي الذي لم تترك السلطة في مصر مكانا لهم فيه.. ففهموا مبكرا جدا.. أنهم لن يجدوا لأنفسهم سندا وسط كل الوجوه السياسية الموجودة علي الساحة.

وربما ما لا يتوقعه كثيرون هو أن جذور الثورة المصرية، لم تبدأ مع الثورة التونسية وشعارات الشعب يريد إسقاط النظام.. بل إن ملامحها بدأت تتشكل منذ الأزمة المالية العالمية التي طحنت الاقتصاد الأمريكي والعالمي من بعده في 2009. تلك الأزمة التي وضعت جيلا كاملا آخر من الشباب الأمريكان في مأزق لم يعرفه آباؤهم.. وهم يحاولون لملمة أشلاء حياتهم التي انهارت فجأة بعد ضربة قاصمة للحلم الأمريكي.. كانت الصفة المشتركة الي جمعت بين الشباب المصري في ثورته، والأمريكي في أزمته.. هو أن كلا منهما لم يجد أحدا يستند إليه في الأزمة التي عصفت به.. ولا وجه واحد في الساحة السياسية يصلح لحمل المسئولية الثقيلة علي كتفيه.. ولم يكن معظمهم.. في الشرق أو في الغرب، يملك المال الكافي لشراء مكانة مميزة في المجتمع.. أو تغيير أوضاعهم فيه.

لقد احترق هؤلاء الشباب بنيران تذيب الحجر.. وتذيب كل الفوارق والحواجز والحدود بين الشعوب.. نيران الحاجة الاقتصادية.. والضغط المادي.. تكون جيل عابر للثقافات والحدود.. يجد نقاط اتفاق تجمعه أكثر من الخلافات التي تفرق قادته.. وكباره.. والأهم.. أن الشباب في مصر أدركوا أن الواحد منهم لن يجد سوي الآخر ليستند عليه، بعد أن تخلي عنه الكل.