عبد الرحيم علي : إخوان وعسكر.. التقارب بينهما مؤقت.. والصدام ضرورة

مقالات الرأي


تصاعدت حدة التنبؤات والشائعات، فى الآونة الأخيرة، حول صفقة بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة وبين الإخوان، وهو ما لا نعتقد فيه نحن، حتى الآن على الأقل، لكن هذه التخرصات هى التى جعلتنا نفتح ملف العلاقة بين الإخوان والعسكر.

والقراءة التى نقدمها للعلاقة بين جماعة الإخوان وثورة يوليو، فى مرحلتها الناصرية، تبدأ بتحليل عن طبيعة السلطة الناصرية، سياسيا وفكريا واجتماعيا، وصولاً إلى رصد التقارب الملموس بين الحركة والثورة، وهو ما يتطلب الإشارة التحليلية الموجزة إلى موقف ثورة يوليو وعبدالناصر من الدين، السلاح الأساسى الأكثر بروزًا وفاعلية فى خطاب الإخوان المسلمين.

وقد انتهت أغلب الدراسات فى مجال النظم السياسية المقارنة كما تورد الدكتورة هالة مصطفى فى كتابها المهم «الدولة والحركات الإسلامية المعارضة»، إلى إدراج النظام السياسى المصرى فى عهد الرئيس عبدالناصر ضمـن النظم «السلطوية»،والذى يتسم بـ:

* أنه نظام لا ينهض على وجود ايديولوجية سياسية قوية متماسكة.

* وجود حزب سياسى واحد يحتكر القوة السياسية وإن كان ذلك لا يمنع وجود تنظيمات سياسية أخرى مستقلة عنه.

* لا توجد تعبئة سياسية فى النظام السياسى السلطوى إلا فى بداية قيامه.

* يهتم النظام بالسيطرة على الجيش ويحتل القادة العسكريون وضعا متميزا فى النظام السياسى، ولكن كلما استقر النظام قلت نسبة العسكريين.

ومن هنا لم يعرف النظام الناصرى ايديولوجية سياسية متكاملة، وإنما عرف مجموعة من المبادئ والأهداف العامة التى يصعب وصفها بـ«الأيديولوجية» فقد أجمعت غالبية الدراسات التى تناولت «ايديولوجية» ثورة يوليو 1952 على الطابع التجريبى لها، وهو ما أطلق عليه عبدالناصر منهج التجربة والخطأ.

ويتمثل هذا المنهج فى حقيقة أن أهم التطورات كانت تجىء بالأساس كرد فعل لإخفاق أو فشل خطير حدث بالفعل، وفرض نتائجه كأمر واقع يحتِّم الاستجابة له، وليس نتيجة لدراسة الواقع ونقده كهدف فى حد ذاته.

وأخيرًا فقد اتسمت الأفكار المعلنة للنظام الناصرى، بما فى ذلك ما جاء فى الميثاق بطابع انتقائى واضح وهو الطابع الذى اتسمت به أغلب «الايديولوجيات» المعلنة فى العالم العربى، التى يرى فيها العديد من الباحثين تلفيقا من مدارس واتجاهات وتيارات فكرية متباينة وجمعها للآراء بطريقة ميكانيكية دون الوصول إلى صيغة تركيبية تجمع هذه الآراء فى نسق فكرى متكامل (د. على الدين هلال: تطور الأيديولوجية الرسمية فى مصر، فى كتاب «مصر فى ربع قرن 1952-1970»، ص 146).

اتسمت النخبة الحاكمة فى النظام السياسى المصرى بعد 1952 بعدد من الخصـائص يمكن إيجـازها فى ثلاث: الأولى: انتماؤها الأساسى إلى الطبقة الوسطى، والثانية: طابعها العسكرى أى الانتماء إلى الجيش، والثالثة: هى سيطرة ما يسمى بالبرجوازية البيروقراطية على مقاليد الحكم.

وفى المقابل أدت سيادة الطابع العسكرى على النخبة الحاكمة إلى إلغاء العمل السياسى تمامًا أو على الأقل حظر الأساليب السياسية فى المجال السياسى، وافترض أن تكون جميع الأنشطة السياسية حكرا على الجيش (د.هالة مصطفى، مرجع سابق، ص 120).

أما الطابع البيروقراطى للنخبة الحاكمة، فقد ارتبط بنظام رأسمالية الدولة فى ظل النظام الناصرى، وما يهم فى هذا المجال هو تلك القوى الاجتماعية التى ارتبطت برأسمالية الدولة، والتى أضحت تعرف باسم «البورجوازية البيروقراطية» والتى يقصد بها: تلك الطبقة التى تنشئ لنفسها موقعًا (أحيانا مسيطرًا) فى علاقات الإنتاج من خلال سيطرتها على قطاع إنتاجى مملوك ملكية عامة، وقد تديره باسم الدولة وتحصل من خلال ذلك على امتيازات هائلة.

وقد لعبت هذه الخصائص العامة للنظام السياسى، فضلاً عن طبيعة التكوين الاجتماعى والسياسى للنخبة الحاكمة، دورًا مهمًا فى تحديد استراتيجيات النظام وسياساته تجاه المعارضة السياسية بشكل عام والإسلامية منها بشكل خاص.

نظام يوليو وحركة الإخوان يتفقان فى كثير من الملامح والسمات الفكرية والتنظيمية، فضلاً عن الأصول الاجتماعية الطبقية المتشابهة، فكلاهما أقرب إلى النظم السلطوية، حيث تغيب الايديولوجية الواضحة المحددة، ويتم الإعلاء من شأن الزعامة الفردية كمرجعية وحيدة مطلقة، وتستبعد فكرة التعامل مع الجماهير والاعتماد عليها فى صناعة القرار وتنفيذه.

النظام الناصرى وجماعة الإخوان يتفقان فى فكرة الإيمان بمبادئ عامة لا تخلو من الغموض ولا تنجو من الإنشائية، وتجنح إلى التعميم، وتأخذ بالتجريب والقدرة على التغيير الجذرى الذى يتناسب مع المتغيرات الطارئة، ولا تتورع عن الانتقائية التى تجمع المتناقضات لتقديم خطاب سياسى فكرى ذى شكل متسق براق.

وإذا كان الإخوان المسلمون يرفعون شعارات دينية ويمارسون السياسة، فإن ثورة يوليو بدورها قد رفعت شعارات سياسية دون أن تتخلى عن التوجه الدينى بما يترتب عليه من اكتساب الشعبية ومحاربة الخصوم الذين يزايدون عليها فى المجال نفسه.

التقـارب الفكرى والتنظيمى بين الثورة والإخوان أتاح فرصة كبيرة للتعـاون والتنسيق المشـترك، كما أنه حمل بذرة الاختلاف والصدام.

المشتركات تصنع وفاقًا ظاهريًّا، والطموحات السياسية تمهد للصدام من جديد.

بعد أيام قليلة من حركة الجيش فى 23 يوليو، وبعد أن اطمأن الإخوان تمامًا إلى نجاح العسكريين فى الإطاحة بالنظام الملكى والاستقرار فى السلطة، سارعوا إلى إصدار بيان يحددون فيه مفهومهم للإصلاح المنشود فى المرحلة الجديدة، وشنوا هجومًا عنيفًا قاسيا على الحياة النيابية السابقة.

وطالب الإخوان فى بيانهم بإهمال دستور 1923 وإسقاطه، مع المطالبة بعقد جمعية تأسيسية تتولى صياغة دستور جديد، يستمد أحكامه من مبادئ الإسلام الرشيدة فى جميع شئون الحياة .(عبدالله إمام: عبدالناصر والإخوان المسلمون، ص 38).

لا يقنع الإخوان بنقد أوجه الخلل والفساد والمطالبة بالإصلاح، لكنهم يرفضون الحكم الديمقراطى، ويطالبون بنظام جديد تئول إليهم فيه مقاليد السلطة. أليسوا وحدهم القادرين على التطبيق المثالى الصحيح لأفكار ومبادئ الإسلام؟!.

لقد اندفع الإخوان المسلمون فى تأييد ثورة يوليو ومباركة خطواتها، وكان للموقف الودى للجماعة أساسه المتين كما يؤكد ريتشارد ميتشل فى كتابه «الإخوان المسلمون»، ففى الوقفة الأولى للثورة ألغى مجلس قيادة الثورة قسم البوليس السرى من وزارة الداخلية وصفى نفوذه تمامًا، وكان من الذين شملهم التطهير محمد الجزار، أكثر رجال القسم عداء للجماعة والذى عرف (بتخصصه) فى شئون الإخوان واشتراكه فى مؤامرة اغتيال البنا، كذلك تم الإعلان عن الاتجاه إلى إعادة التحقيق فى قضية مقتل البنا التى حُفظت دون التوصل إلى شىء، كواحد من الإجراءات الأولى التى اتخذها العهد الجديد.

ومن الوجهة العلنية، نجح الطرفان فى الحفاظ على مظهر العلاقة الودية طوال عام 1953، وكان واضحا أن إفلات الإخوان المسلمين من الحملة ضد الأحزاب قد استقر بهم فى موقف مرموق فى البلاد.

وقد شارك رجال الحكومة البارزون، بما فى ذلك نجيب وعبدالناصر، فى الزيارة السنوية لضريح البنا، شهيد الأمة كما كان يسمى، فى 13 فبراير 1953 الموافق للذكرى السنوية الرابعة لوفاته.

وفى أغسطس، عُين البهى الخولى أحد أعضاء الجماعة الذى كان مناصرًا للحكومة ضابطًا للاتصال بين الجماعة وهيئة التحرير ومديرًا للإرشاد الدينى بالهيئة.

وفى سبتمبر 1952، انكر الهضيبى علنًا وجود أى خلاف أو سوء تفاهم مع النظام. وفى الشهر نفسه شكلت الحكومة «محكمة الثورة» لمحاكمة القادة السياسيين السابقين، وكانت أولى قضاياها قضية إبراهيم عبد الهادى، معنية بوجه خاص بدوره فى مقتل البنا واضطهاد الإخوان. (عبد الله إمام، مرجع سابق، ص 42).

إن قراءة التاريخ السياسى المعاصر لمصر منذ 1952 تشير إلى خصوصية العلاقة التى ربطت بين تنظيم الضباط الأحرار وجماعة الإخوان المسلمين، أولى الحركات السياسية الإسلامية فى مصر. وتنطوى هذه العلاقة ابتداء على بعدين أساسيين:

الأول: هو السياق السياسى الذى نمت فى إطاره الحركتان قبل نجاح حركة الجيش فى الاستيلاء على الحكم، والآخر يتعلق بالأصول الاجتماعية التى جاءت منها كلتا الحركتين والتى عبرت عن إحدى شرائح الطبقة الوسطى المصرية وهى الشريحة الدنيا منها!

لعب هذان البعدان دورًا أساسيًّا فى صياغة العلاقة بين الضباط الأحرار والإخوان المسلمين والتى تراوحت بين التعاون حينًا والصراع حينًا آخر، لكنها فى كل الأحوال كانت تحمل فى طياتها طابعًا تنافسيًّا مستمرًا، وإذا كانت دواعى البراجماتية السياسية قد جمعت بينهما لمواجهة النظام السابق على 1952، إلا أن استمرار عوامل المنافسة بينهما حالت دون تعايشهما لفترة طويلة. وهو ما تؤكده الدكتورة هالة مصطفى فى المرجع السابق الإشارة إليه.

فقد كان لبعض أعضاء اللجنة التأسيسية لتنظيم الضباط الأحرار جذور من حركة الإخوان، وربما ساعدت هذه الصلة على التنسيق بينهما فى بعض المراحل خاصة فى أوآخر الأربعينيات: حيث كانت حرب فلسطين مبررًا إضافيا لكل منهما لزيادة حدة الصراع مع الوفد وخلق مساحة مشتركة للتحرك (وإن لم يمنع ذلك الخلاف بينهما حول العديد من القضايا ومن ضمنها أسلوب الاشتراك فى حرب 1948 نفسها).ولذلك؛ فقد استمرت الصلة بين تنظيم الضباط الأحرار وجماعة الإخوان قائمة على أسس غير عدائية وغير تنظيمية أيضًا. (أحمد حمروش، قصة مقدمة ثورة 23 يوليو، ج3، ص 127).

وربما كان الدافع الكامن لتقوية الصلة بالإخوان هو تنامى دورهم السياسى الذى توازى مع نمو الجهاز السرى من حيث الإعداد التنظيمى والتدريب والتسليح، وهو ما أعطى لهم قوة نسبية على الساحة السياسية كان من الصعب.

وتخلص هالة مصطفى إلى أن الإطار التنافسى الذى اتسمت به العلاقة بين حزب الوفد من ناحية، وجماعة الإخوان المسلمين وتنظيم الضباط الأحرار من ناحية أخرى قد خلق إطارا من التعاون بين كل من الضباط والإخوان لتوجيه حركتهما فى بعض اللحظات التاريخية ضد الوفد.. ولكن مسار هذه العلاقة التعاونية اختلف بعد تغير هذا الظرف التاريخى بصعود حركة الضباط الأحرار ووصولها إلى الحكم مع بقاء الإخوان خارجه. (د.هالة مصطفى، مرجع سابق، ص .124).

كانت حركة الضباط على وعى منذ البداية بضرورة الحفاظ على استقلاليتها، ورغم اتجاهها- لدواعى الواقعية السياسية- إلى التعاون مع حركات سياسية أخرى ومن ضمنها الإخوان، إلا أن هذا التعاون لم يصل إلى درجة التحالف قبل وصولها إلى الحكم، كما لم يكن مبررًا لاقتسام السلطة مع أى منها بعد نجاحها فى 23 يوليو 1952.