خالد حنفى يكتب : محمد منير.. الثائر من يومه

مقالات الرأي


وحده من يمنحك المتعة كاملة.. وحده من يحررك من خطاياك ويعيدك الى يوم ولدتك أمك.. وحده من يضع الشمس فى يمينك والقمر فى يسارك.. هو محمد منير الذى ما أن غنى حتى ملأ الكون بهجة.. ما أن غنى حتى رقص الكون طربا.. إن غناه ليعلو ولا يعلى عليه.

فى ثورة 25 يناير تلقف الجميع أغنية «ازاي» على أنها اغنية الثورة رغم أن منير غناها قبل الثورة بفترة.. ولو فتشوا فى تاريخه الغنائى لعرفوا أنه الثائر من يومه.. لو فتشوا لعرفوا أنه واحد من المحرضين الكبار عليها وواحد من الذين صرخوا فى الناس ربما انتفضوا.. وهب صوته من أجلنا.. انحاز بغنائه للمقهورين والمكسورين والغلابة والمساكين وأبناء السبيل.. انحاز للجميع دون أن تحسبه على فئة بعينها.. دون أن تحسبه على تيار بعينه.. دون أن تحسبه على حزب بعينه.. صوته -مثل على الحجار- هو حزبه الذى ينتمى اليه.. ربما ساعده فى ذلك انحيازه الشخصى لشعراء كبار من أمثال عبدالرحمن الأبنودى وسيد حجاب ومجدى نجيب وعبدالرحيم منصور وفؤاد حداد وصلاح جاهين وكوثر مصطفى وعصام عبدالله وجميعهم من الناس وإلى الناس.. فى اغنيته «بلاد العرب» وهى ضمن ألبوم تم تسريب اغنياته مؤخرا يصرخ منير «جدع بلا جاه مرسى الهموم قلبه/دايما يقول الآه والذنب مش ذنبه/ده انا لو شكيت وبكيت جبل الحديد هيدوب/بلدى قصاد عينى قولت أعدى لها/يا مراكبى رسينى وياربى عدلها/اللى يعاديك تعاديه وتفرجه فنونك/واللى يراضيك تراضيه وتشيله فى عيونك» هى اغنية ربما تعتبرها كاشفة لما يجرى مع ثورة لا يريد لها أحد أن تمر على خير.. ثورة يتربص بها كل من له مصلحة مع النظام المخلوع.. ثورة أصبح فيها المجنى عليه جانياً والمظلوم ظالمًا.. اصبح فيها القاتل شهيدا والشهيد لا دية له «فين هو سجانى معقول يعود تاني/بقى هو حر طليق وانا لسه فى مكاني/فى دم راح منى وادينى مستني/ده مفيش شهيد يرتاح لو بس بنغني/فكوا القيود واصحوا يا دولة النايمين/فى خلق بتضحى ولا انتوا مش حاسين».. اصحوا يادولة النايمين.. فى تونس يعانون من أزمة اقتصادية طاحنة لكنهم يعرفون أنه ثمن يدفعونه للحرية.. يعرفون أنها ضريبة لإسقاط بن على ورجاله.. ما حصلوا عليه سياسيا يهون عليهم أحوالهم الاقتصادية.. أما فى مصر فالنائمون فيها يحمّلون الثوار جوعهم وفقرهم ومرضهم.. كأنهم كانوا يعيشون فى نعيم أيام النظام المخلوع.. كأنهم كانوا يجدون العلاج كلما توجعوا.. والطعام متى اشتكت بطونهم.. اصحوا يادولة النايمين فى خلق بتضحى ولا انتوا مش حاسين.

ليس غريبا على منير أن تكون اغنياته كاشفة.. أن ترى ببصيرتها مايعجز آخرون عن كشفه.. هو الثائر من يومه.. من اول ألبوم غنائى له سنة 1977 «علمونى عنيكي» وبعده ألبوم «بنتولد» بل إن كل عناوين ألبوماته تشير الى انحيازه للحرية الكاملة وانحيازه للناس.. تشير الى ايمانه بهذا الوطن فهو قبلته التى يولى وجهه تجاهها.. حتى إذا ماغنى لحبيبة لا يمكن أن تسمعها بعيدا عن أنها وطنك وسكنك.. هو ومعه على الحجار من أعادا للغناء كبرياءه وكرامته.. هو وعلى الحجار من خلصاه من عجزه وضعفه وهوانه على الناس.. هو وعلى الحجار من قادا ثورة غنائية فى ظل ردة كان لها أن تستفحل وتتوحش.. هو وعلى الحجار من صمدا فى وقت أصبحت فيه الساحة الغنائية مخنثة، وبالوقت عاش على ومنير وبالوقت سيعيشان إلى الأبد بينما يذهب غيرهما من أصحاب الغناء المخنث إلى أقرب سلة مهملات.

انحيازى لما يغنيه منير دفعنى فى فترة من الفترات أن أكون عنيفا أمام أغنية له رأيتها فى حينها لا تليق بتجربته الغنائية المميزة والفريدة.. استكثرت عليه ان يستريح ولو قليلا.. هالنى ان أراه يزرع فى ارض ليست ارضه.. حماسى المنجرف دفعنى لأن اكتب عنه انه يخون أحلامه، وهو وصف رآه وقتها الشاعر الكبير مجدى نجيب انه قاتل وان كان برر عنفى وقتها على أنه محبة كبيرة لواحد لاشبيه له.. كنت عنيفا رغم أننى كنت أعرف أن هناك مطربين اعتلوا الساحة واغتنوا من وراء غناء مريض وأصبحوا من اصحاب الملايين فى وقت كانت فيه حياة على ومنير بالتقسيط.. واحد من هؤلاء المغنين الأثرياء ومن فرط انحيازى لجيل الوسط وصفنى بأننى مريض نفسيا وأن جيل الوسط جيل فاشل.. لكن هذا المغنى ومن على شاكلته هم من تأكد لنا أنهم لايعيشون كثيرا.. هم شبه اغنياتهم تستخدمها لمرة واحدة فقط لاغير.. إذا ما حاولت أن تستدعيها لن تجد فيها ما يستحق أن تقف أمامه.. لن تجد فيها ما يمتعك أو يغسل وجدانك.. لكن تجربة محمد منير ثرية.. هى تجربة غنائية تحريضية على كل قيم الحق والخير والجمال.. تجربة انحاز فيها للإنسانية يكفى أن تستمعوا إلى أغنيته «حدوتة مصرية» لتعرفوا أنها تشريح لحال مصر طوال سنوات من القمع والفساد والنهب وتخريب الذمم وتجريف الوجدان وافساد الذوق.. تكلم منير وصرخ ربما يتكلم الجميع«اتكلموا محلى الكلام ما الزمه وما اعظمه/ فى البدء كانت كلمة الرب الإله /خلقت حياة والخلق منها اتعلموا فاتكلموا».. صرخ فينا وفيها «اتكلمي.. ليه تسكتى زمن اتكلمي/ اتكلمى ليه تدفعى وحدك التمن اتكلمي/ وتنامى ليه تحت الليالى اتكلمي/ المشربيات عيونك بتحكى على اللى خانوكى واللى سنين هملوكى جوه البيبان سلسلوكي»

هو الثائر من يومه.. كل ألبوماته شاهدة عليه.. يمكنك ان تستدعيها الآن لتكون شاهدة على ما نحن فيه.. كان أكثرها مباشرة اغنيات مسرحية «الملك هو الملك» واعيدوا سماعها ليتأكد لكم ذلك.. اعيدوا سماع اغنية «طفى النور يابهية».. هى الأغنية التى تكشف ما يفعله العسكر فينا.. هى الأغنية العابرة للأزمان.. يمكنك ان تستدعى اغنية الرائعة كوثر مصطفى «ساح يا بداح»» ساح يابداح يا سؤال جراح/ماالذى كان وماعدش وراح /قم انطفى وانكفى واختفي/نهر مابلش حتى الريق/وآه يابراح عمال بيضيق» و«ايه اللى اتكسر/فص اللولى ولا المرمر /طول العمر العسكر عسكر/بس الناس الناس كات ناس/وكان الحلم قبالى براح»

هو الثائر من يومه.. لم يمل منير من التحريض.. لم تهن عزيمته ولم يراهن على شىء سوى أن يغنى وأن يستمتع هو قبل أن يمتعنا.. لو رأيتموه وهو يستعد لأغنية لتأكد لكم كيف ضربته الموسيقى بسحرها؟! لتأكد لكم كم هو مجنون بها؟!.. لو رأيتموه لعرفتم انه لا ينزل نفس البحر مرتين.. فى كل مرة ينزل الى بحر جديد ليأتى لنا بالثمين فيه، وبحور منير كثيرة جدا.. بحوره صعيدية نوبية سودانية جزائرية تونسية وغيرها.. لا أحد غيره يفعل ذلك فهو وحده لاشبيه له