أزمات ارتفاع أسعار الأسمدة والأعلاف والأمن الغذائي تتلاقى مع الزراعة الذكية مناخيًا

محافظات

زراعة
زراعة

دخول مشروع الزراعة الذكية مناخيًا قرية الدوير كان حلما وبدأ يتحقق لـ "وجيه صابر" رئيس جمعية تنمية المجتمع المحلي والزراعي، خاصة عقب متابعته الدؤوبة لتوجه الهيئات التنموية والدولة نحو هذه الزراعة، لمواجهة التغيرات المناخية وتحقيق فوائدها.

فقد عمل "وجيه" داخل جمعيته لسنوات طويلة في تطبيق تجارب زراعية مماثلة في دول نامية أخرى، لحل المشاكل التي تواجه المزارعين داخل قريته، وكان أبرزها ارتفاع سعر كيس الأسمدة الكيماوية والبحث عن بدائل أخرى، واستزراع أعلاف جديدة تكون بديلة لأعلاف الدواجن عقب ارتفاع أسعار الأعلاف، وتوقف مشروعات تربية الدواجن والبط داخل القرية.

وقد تزامنت مشاكل المزارعين داخل القرية مع بدء مؤسسة كير تقديم مشروعها الأول للزراعة الذكية مناخيًا للدولة، واستهداف الجمعيات الزراعية والمجتمع المدني لتنفيذ المشروع.

ويضيف وجيه بقوله "عندما وجدت اتجاه الدولة ومؤسسة كير، لمشروع الزراعة الذكية مناخيًا، فكرت أن نكون ضمن هذه الجمعيات المستهدفة".

وجيه صابر رئيس جمعية الدوير

 قدم "وجيه صابر" مقترحاته كرئيس لجمعية زراعية إلى مؤسسة كير من بين 84 جمعية زراعية على مستوى أسيوط، لدخول المشروع، وذلك بمشروعين استزراع حبوب الشعير كبديل أوفر لأعلاف الدواجن، وزراعة الأسطح لتحقيق اكتفاء غذائي لأسر داخل القرية.

وعقب تفحّص مؤسسة كير لمقترحات جمعية "الدوير"، والبحث حول مشكلات القرية الفعلية فيما يخص ارتفاع أسعار الأسمدة والأعلاف، ومدى أهمية الشعير المستنبت، وافقت كير على ضم مقترحات "وجيه"، ودخول جمعية الدوير للمشروع.

وجيه صابر أطلق على هذا المشروع اسم" نبتة خير"، بقوله "لقد كان لدي أمل أن يكون بداية الخير لكل المزارعين وسيدات القرية".

تدوير المتبقيات الزراعية.. حل مناخي لارتفاع أسعار الأسمدة

مكينة فرم المتبقيات الزراعية
 

كان من ضمن تدريبات كير التي تلقاها "علام" والمزارعين داخل جمعية الدوير هو تدوير المتبقيات الزراعية من زراعة القمح والذرة الشامي، وتحويلها إلى سماد عضوي بدلًا من الأسمدة الكيماوية  نظرا لارتفاع أسعارها، وتحقيق توفير اقتصادي للمزارع. 

فقد كان الأسلوب القديم داخل القرية في التعامل مع المتبقيات الزراعية هو حرقها داخل الأرض الزراعية، للتخلص منها، وكان يعاقب المزارع بتسجيل محاضر مخالفة ودفع غرامات أو التهديد بعدم الحصول على دعم للأسمدة.

بدأ "علام" عقب الدورات التدريبية في جمع المتبقيات الزراعية من داخل أرضه عقب نهاية موسم القمح،  وأخذها لفرمها في ماكينة الفرم التي قدمتها مؤسسة كير للمزارعين لصناعة كمبوست طبيعي بديل للسماد الكيماوي.

بداية، يجمع "علام" المتبقيات الزراعية داخل كيس لصناعة حفرة الكمبوست داخل أرضه الزراعية، ثم يتم فرمها، بقوله "وبجوار الأرض الزراعية، نفرد المتبقيات في شكل طبقة، ثم نضع طبقة أخرى من روث المواشي، ونضيف لها سمادا كيماويا مثل" يوريا 46 والنترات 33"، ونرش مياها فوق الخليط ونتركه لمدة موسم، حتى يتحول لسماد طبيعي".

صناعة الكمبوست من فرم المخلفات الزراعية
 

"علام" كان يحتاج نحو 10 أكياس من الأسمدة للفدان الواحد، لكنه أصبح يشتري فقط نحو 4 أكياس يتم إضافتها لصناعة الكمبوست، من أجل إعطاء التغذية السليمة للمزروعات، ووجد "علام" أن صناعة السماد الطبيعي ساعدته على توفير ثمن 6 أكياس أسمدة، وهذا حقق له ربحا اقتصاديا، بالإضافة إلى الفارق في خصوبة التربة وتخفيف الانبعاثات، حيث يُؤكّد أن "استخدام الكمبوست مع زراعة المصاطب يجعل التربة صحية، ويحقق قيمة غذائية". 

أعلاف موفرة للدواجن

يُشكّل ارتفاع أسعار الأعلاف للدواجن مشكلة كبيرة تسببت في توقف مربيات الدواجن في الاستمرار في مشاريعهن الاقتصادية داخل القرية، وعقب دخول مشروع "الزراعة الذكية مناخيًا" حصلت جمعية الدوير من خلال مؤسسة كير على ماكينة أو مكبس لأعلاف الدواجن، تسمح بصناعتها انطلاقا من متبقيات الذرة الشامية والأراضي مثل أوراق اللوسيانا التي تضم 65% من نسبة البروتين. ويوضّح وجيه في هذا الصدد، "زمان كان المزارع بيحرق أوراق اللوسيانا وبتعمل تلوثات، لكن حاليًا هي قيمة غذائية عالية للدواجن عند فرمها في مكبس الأعلاف".

عودة "أم مدحت" لتربية الدواجن

أم مدحت- إحدى مربيات الدواجن والبط في القرية
 

إعادة تدوير المتبقيات الزراعية وإضافة مكونات بروتينية جعلت السيدة سهير نظمي الشهيرة بـ "أم مدحت"- 60 سنة إحدى مربيات الدواجن داخل الدوير، تعود لمشروعها الاقتصادي الخاص بتربية البط والأوز فوق سطح منزلها، بعد أن توقف بسبب ارتفاع سعر أعلاف الدواجن الذي وصل سعر الكيلو إلى 30 جنيها، والذي يجعل مجموع مصروفات الأعلاف تقارب سعر ثمن لحم البط في السوق، وتتجه "أم مدحت" اليوم عند احتياجها لأعلاف البط، إلى جمعية الدوير، للحصول على الأعلاف داخل الجمعية بأسعار معقولة.

ويُحضّر مدير مشروع الزراعة الذكية مناخيا في الجمعية "وليد صابر" هذا العلف للدواجن من خلال استعمال المخلفات الزراعية ومتبقيات المنازل مثل الخبز الناشف أو بقايا الثوم والبصل كمضاد حيوي، ويضيف لها بذور الذرة الشامي.

هذه المكونات المختلطة تعطي نسبة بروتين عالية للدواجن، ووفق تحكم "وليد" بها، لأن إضافة بذور الذرة الحمراء تعطي 21% من البروتين، بذور الذرة البيضاء 7%، الذرة الصفراء 9- 11%، وذلك وفق شرح وليد.

نسبة البروتين في المتبقيات الزراعية
 

أعلاف موفرة ومكسب عالي

تشتري "أم مدحت" اليوم الأعلاف من الجمعية بسعر نحو 15 جنيه للكيلو، بعد أن كان بالخارج بسعر 28- 30 جنيه، والذي يعد توفيرا عاليا لم يشجعها فقط على العودة مرة أخرى لمشروعها الاقتصادي، بل توسعته. فقد كانت "أم مدحت" تشتري زوجين من البط، تربيهم وتبيعهم،  إلا أنها اليوم أصبحت تشتري بنحو 10 أزواج من البط والأوز

عملاء "أم مدحت" هم الأسر داخل القرية، ويزدهر نشاطها وعملها في موسم الأعياد الدينية سواء الإسلامية أو المسيحية،  والربح الذي استطاعت تحقيقه من المشروع مكنها من الإنفاق على تعليم ابنتها في الجامعة وتغطية مصاريف أطفال ابنتها الأخرى المتوفية، حيث تقول "مشروع البط آكل منه وأخصص فلوس منه لتعليم بنتي في الكلية، فأنا أصرف عليها من الطيور، وأصرف على عيال ابنتي والحمد لله مشروعي كبر خالص".

"أماني عبد الرحمن" رائدة أعمال في الشعير المستنبت

أماني عبد الرحمن- رائدة أعمال في الشعير المستنبت
 

حضرت أماني عبد الرحمن – 23 سنة طالبة في كلية خدمة اجتماعية، الدورات التدريبية التي نظمها "وجيه صابر" عن كيفية استزراع الشعير، كأعلاف للدواجن والمواشي. وخلال هذه الدورات، تمت دعوة أساتذة كلية الزراعة في جامعة أسيوط، لإلقاء المحاضرة لسيدات القرية عن كيفية زراعة الشعير، وأهميته الغذائية في تحسين عمليات الهضم، وتقليل انبعاثات الغازات من مخلفات الحيوانات والطيور.

تشجعت "أماني" لتقوم بتجربة زراعة الشعير المستنبت في منزلها، نظرًا لسهولة التجربة وتكلفتها الاقتصادية المنخفضة، فقد كلفتها زراعة الكيلو الواحد من الشعير المستنبت 20 جنيها، ومكّنتها من إنتاج نحو 7 كيلو، بعد  10 أيام فقط.

وعن كيفية زراعته تقول: " أضع حبوب الشعير في ماء لمدة يوم، وفي اليوم الموالي أضعه على قماش من القطن لمدة يوم، وفي اليوم الثالث، أضعه على صينية ذات فتحات لتصريف المياه، ثم عقب 10 أيام يكون جاهزا". 

تحول الشعير المستنبت إلى مشروع اقتصادي رائد

هذه التجربة كررتها "أماني" في منزلها أكثر من مرة، وبدأت تبيع الشعير المستنبت لمربيات الدواجن والبط من خلال الجمعية، ونظرا لنجاح تجربتها، قدمها "وجيه صابر في مسابقة الجمعية المصرية للباحثين العلميين، وفازت بمنحة 10 آلاف جنيه، للمساعدة في تحويل تجربتها إلى مشروع اقتصادي رائد.

هذه المنحة المادية التي تلقتها "أماني" جعلتها تتوسع في المشروع، وتحوله إلى مشروع ربحي وذو أبعاد اجتماعية واقتصادية وبيئية داخل قريتها الدوير. فكانت تزرع كميات قليلة تستهدف بها  30 شخصا، ولكن عقب المنحة أصبحت تستهدف بين 60- 90 شخصا لتبيع لهم الشعير المستنبت، خاصة عقب ارتفاع أسعار أعلاف الدواجن، وتضيف بقولها: "كيلو العلف أصبح غاليا، لكن دلوقتي هناك علف متوفر، لأن الفراخ والبط تحب الأكل الأخضر".

يستخدم الشعير المستنبت أيضا كعلف للبقر والجاموس، لإحتوائه على نسبة بروتين، كما أنه أرخص من أسعار الأعلاف في الخارج، حيث وصل كيس العلف إلى 300 جنيه.

الشعير المستنبت

أسطح منازل صديقة للبيئة

سيدات القرى يتحولن إلى الزراعة المنزلية

تحويل أسطح منازل قرية الدوير إلى صديقة للبيئة كان من ضمن البرنامج الذي رسمه "وجيه صابر" مع مؤسسة كير لتطبيق مشروع الزراعة الذكية مناخيًا، خاصة وأن أسطح منازل القرى الريفية تكون عادة مخزنا للنفايات المنزلية والتي يتم حرقها وتتسبب في انبعاثات كربونية.

وبدأ "وجيه صابر" بعقد دورات تدريبية للسيدات عن كيفية زراعة الجرجير، الكزبرة، الشبت، الكرنب وعرض تجارب استزراع الجمعية لهذه الأصناف الغذائية الأساسية على مائدة الطعام. وتشجيعًا للسيدات على الاقبال على ذلك،  عرض عليهن تزويدهن بالكومبوست المنزلي أو صنف مجاني من المزروعات إذا زرعن أربعة أصناف. 

زراعة الطماطم

تلك التجارب حضرتها السيدة "نورا إبراهيم"- 60 سنة، والتي وجدت فيه جزءًا من أحلامها بتحويل سطح منزلها إلى حديقة منزلية تزرع فيها كل الأصناف الغذائية الأساسية، من طماطم، ريحان، ملوخية،  فلفل، قرنبيط، جرجير، فجل، شبت، بقدونس،  كزبرة. فهذه الأصناف تكفي عدد أسرة "نورا" المكونة من أربعة أفراد حيث تعلق" توقفت عن شراء الخضروات من الأسواق بنسبة كبيرة، وأنا أشجّع كل الناس على الزراعة المنزلية".

 وتستفيد "نورا" من مخلفات الأكل مثل قشور البيض والبطاطا لتستعملها كسماد طبيعي للمزروعات. كما جربت زراعة الفواكه الإستوائية الشهيرة مثل "الباشون فروت"، وفاكهة التنين "الدراجون فروت" اللتان تحتاجان لدرجات حرارة مرتفعة، فوق سطح منزلها، وهي تفتخر حاليا بإدخال هذه الأصناف الجديدة إلى قريتها.  

استدامة منهج الزراعة الذكية مناخيًا

استدامة منهج الزراعة الذكية مناخيًا

استدامة تجربة الزراعة الذكية مناخيًا يحتاج إلى تشجيع من جمعية الدوير التي أصبحت تحتضن التقنيات والخدمات الفنية الزراعية لذلك المنهج، ويتردد عليها الاستشاريون الزراعيون، لتقديم الاستشارات الزراعية للمزارعين.

وقد أوجد "وجيه صابر" محفزات إضافية للمزارعين لاستمرار ذلك المنهج العالمي داخل القرية، بجعل فرم المتبقيات الزراعية مجانيا، وإعطاء المزارع 100 جنيه لكل طن كمبوست بالتعاون مع مؤسسات زراعية، بالإضافة إلى إعطاء مخصبات بنصف الثمن للمزارعين المستمرين في زراعة المصاطب، وتخفيض في سعر كيس الحبوب المقاومة للجفاف.

وتم كذلك العمل داخل الجمعية على تدريب فتيات على زرع الشعير المستنبت، والسعي نحو الربحية والحصول على جوائز مثل "أماني"، وتقديم دعم فني للمجلس القومي للمرأة، للتوسع في الزراعة فوق الأسطح. وذلك  في إطار مساع إضافية لضمان استدامة منهج الزراعة الذكية مناخيًا لدى المزارعين.

معوقات تعميم منهج الزراعة الذكية مناخيًا

الدكتور عصام شلبي- أستاذ علوم المحاصيل في جامعة الإسكندرية 
 

رغم ذلك، فإن منهج الزراعة الذكية مناخيًا في مصر يواجه صعوبات في تعميمه وتطبيقه، ولن يقدر على تنفيذه إلا المزارع القادر ماديًا،  ولكنه في نفس الوقت ليس مستحيلا، لأنه يعتمد على العمل الجماعي وتذليل العقبات، وذلك وفق تعليق الدكتور عصام شلبي.

ويوضح هذا الأخير أن أهم التحديات التي تواجه المزارعين لتعميم وتطبيق منهج الزراعة الذكية مناخيًا هي حجم المزرعة، موضحًا بأن قدرة حائزي الأراضي الصغيرة على تطبيق الزراعة الذكية مناخيًا تبقى محدودة، بسبب ضعف الوصول للخدمات الإرشادية، خاصة وأن خدمة الإرشاد الزراعي في وزارة الزراعة غير قادرة على تلبية كل الطلبات.

 كذلك فإن مستوى تعليم الفلاح يعد من عوائق تطبيق الزراعة الذكية مناخيًا لأن الفلاح المتعلم سيستطيع أن  يصل للخدمات الإرشادية، خاصة مع توفر المعلومة المتعلقة بالمناخ والطقس.

 ومن جهة أخرىـ فإن  عدم القدرة على الوصول إلى تمويل مشروع الزراعة الذكية مناخيًا  يُعدّ من أهم العوائق الزراعية التي تؤثر سلبًا على تطبيقها، لأن المزارع يحتاج إلى مبيدات ذات كفاءة عالية، كما أن التقاوي (البذور) ذات الجودة العالية باهظة الثمن.

لذلك يرى أستاذ علوم المحاصيل الزراعية أنه يجب على الدولة تحسين خدمات الإرشاد الزراعي وتحسين سبل وصول الفلاح إلى المعلومات، بقوله "قد يكون الفلاح مقتنعا  بفكرة الزراعة الذكية مناخيًا لكنه غير قادر ماديًا على تطبيقها، فيجب هنا تنفيذها عن طريق  طرق تمويلية مختلفة وحث البنك الزراعي على تخفيف فوائده،، وخاصة أن الدولة تساعد في مشروعات تبطين الترع ونشر طرق الري المحسنة بالتنقيط أو الرش، للتوسعة في الممارسات الذكية".

من المهم أيضا أن تدعم الدولة التقاوي عالية الجودة بأسعار مناسبة، "لأنه إذا لم نفعل ذلك فإن أي محاولة للتسميد ومقاومة الآفات لن تجدي".

كما أنه يجب أن يلتف الفلاحون حول هذا المنهج، ويتم القيام بممارسات جماعية لتطبيق الزراعة الذكية مناخيًا، وخلق أسواق تعاونية لعرض سلعهم دون وجود وسطاء، وبالتالي يزيد دخل المزارع، ويصبح قادرًا على الاستثمار في الزراعة.

 أنتجت هذه القصة بدعم من الاتحاد الأوروبي وهو ليس مسؤولا عن مضمون هذا المحتوى.